فصل: ( فَصْلٌ: فِي آدَابِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهَا )

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***


‏[‏ فَصْلٌ‏:‏ فِي آدَابِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهَا ‏]‏

المتن‏:‏

لِيَكْتُب الْإِمَامُ لِمَنْ يُوَلِّيهِ

الشَّرْحُ‏:‏

‏[‏ فَصْلٌ ‏]‏ فِي آدَابِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهَا ‏(‏لِيَكْتُب الْإِمَامُ‏)‏ نَدْبًا ‏(‏لِمَنْ يُوَلِّيهِ‏)‏ الْقَضَاءَ بِبَلَدٍ مَا فَوَّضَهُ إلَيْهِ فِي كِتَابٍ ‏{‏لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً‏}‏ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ‏.‏ ‏"‏ وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لِأَنَسٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ وَخَتَمَ بِخَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ؛ ‏{‏لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتُبْ لِمُعَاذٍ، بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى وَصِيَّتِهِ‏}‏، وَإِذَا كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابَ الْعَهْدِ بِالْوِلَايَةِ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إلَى الْقِيَامِ بِهِ وَيَعِظُهُ فِيهِ وَيُعَظِّمُهُ، وَيُوصِيهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَفَقُّدِ الشُّهُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي مَعْنَى الْإِمَامِ الْقَاضِي الْكَبِيرُ إذَا اسْتَخْلَفَ فِي أَعْمَالِهِ الْبَعِيدَةِ‏.‏ قَالَ الصَّيْمَرِيُّ‏:‏ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُسَلِّمَ كِتَابَ عَهْدِهِ إلَيْهِ بِحَضْرَتِهِ خَوْفًا مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ وَيَقُولُ لَهُ‏:‏ هَذَا عَهْدِي وَحُجَّتِي عِنْدَ اللَّهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَيُشْهِدْ بِالْكِتَابِ شَاهِدَيْنِ يَخْرُجَانِ مَعَهُ إلَى الْبَلَدِ يُخْبِرَانِ بِالْحَالِ، وَتَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ فِي الْأَصَحِّ لَا مُجَرَّدُ كِتَابٍ عَلَى الْمَذْهَبِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيُشْهِدْ‏)‏ نَدْبًا ‏(‏بِالْكِتَابِ‏)‏ أَيْ الْمَكْتُوبِ بِمَا تَضْمَنَّهُ مِنْ التَّوْلِيَةِ ‏(‏شَاهِدَيْنِ يَخْرُجَانِ مَعَهُ إلَى الْبَلَدِ‏)‏ الَّذِي تَوَلَّاهُ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ ‏(‏يُخْبِرَانِ‏)‏ أَهْلَ الْبَلَدِ ‏(‏بِالْحَالِ‏)‏ مِنْ التَّوْلِيَةِ وَغَيْرِهَا، وَعِبَارَةُ التَّنْبِيهِ‏:‏ وَأَشْهَدَ عَلَى التَّوْلِيَةِ شَاهِدَيْنِ، وَهِيَ أَوْلَى مِنْ عِبَارَةِ الْكِتَابِ، إذْ الِاعْتِمَادُ عَلَى التَّوْلِيَةِ دُونَ الْكِتَابِ وَعِنْدَ إشْهَادِهِمَا يَقْرَآنِ الْكِتَابَ أَوْ يَقْرَأَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا قَرَأَهُ الْإِمَامُ‏.‏ قَالَ فِي الْبَحْرِ‏:‏ لَا يَحْتَاجُ الشَّاهِدَانِ إلَى أَنْ يَنْظُرَا فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ قَرَأَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ فَالْأَحْوَطُ أَنْ يَنْظُرَ الشَّاهِدَانِ فِيهِ لِيَعْلَمَا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَرَأَهُ الْقَارِئُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ‏.‏ وَلَوْ أَشْهَدَ وَلَمْ يَكْتُبْ كَفَى فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الشُّهُودِ، فَإِذَا أَخْبَرُوا أَهْلَ الْبَلَدِ لَزِمَهُمْ طَاعَتُهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَشَارَ بِقَوْلِهِ‏:‏ يُخْبِرَانِ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْأَصْحَابِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّهَادَاتِ، إذْ لَيْسَ هُنَاكَ قَاضٍ تُؤَدَّى عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ قَاضٍ آخَرُ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ مِنْ نَصْبِ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ اعْتِبَارَ حَقِيقَةِ الشَّهَادَةِ وَلَا شَكَّ فِيهِ‏.‏ وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ عِنْدِي أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَدَارُ عَلَى الْإِخْبَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّهَادَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِوَاحِدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْخَبَرِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ ا هـ‏.‏

وَالظَّاهِرُ هُوَ إطْلَاقُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ ‏(‏وَتَكْفِي‏)‏ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ عَنْ إخْبَارِهِمَا بِالتَّوْلِيَةِ ‏(‏الِاسْتِفَاضَةُ‏)‏ بِهَا ‏(‏فِي الْأَصَحِّ‏)‏ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْإِشْهَادَ‏.‏ وَالثَّانِي الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

ظَاهِرُ كَلَامِهِ تَبَعًا لِلْمُحَرَّرِ جَرَيَانُ الْخِلَافِ وَلَوْ كَانَ الْبَلَدُ بَعِيدًا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الْبَلَدِ الْقَرِيبِ، وَلَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ‏(‏لَا مُجَرَّدُ كِتَابٍ‏)‏ بِهَا بِلَا إشْهَادٍ أَوْ اسْتِفَاضَةٍ فَلَا يَكْفِي ‏(‏عَلَى الْمَذْهَبِ‏)‏ لِإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ‏.‏ وَفِي وَجْهٍ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِي يَكْفِي لِبُعْدِ الْجَرَاءَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ إخْبَارِ الْقَاضِي لَهُمْ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ إنْ لَمْ يُصَدِّقُوهُ، فَإِنْ صَدَّقُوهُ فَفِي وُجُوبِ طَاعَتِهِ وَجْهَانِ، وَقِيَاسُ مَا قَالُوهُ فِي الْوَكَالَةِ عَدَمُ وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَنْكَرَ تَوْلِيَتَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ لَعَلَّ وُجُوبَهَا أَشْبَهُ، وَفِي الْآثَارِ وَالْأَخْبَارِ مَا يُعَضِّدُهُ‏:‏ أَيْ وَلِأَنَّهُمْ اعْتَرَفُوا بِحَقٍّ عَلَيْهِمْ‏.‏

المتن‏:‏

وَيَبْحَثُ الْقَاضِي عَنْ حَالِ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ وَعُدُولِهِ، وَيَدْخُلُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَيَنْزِلُ وَسَطَ الْبَلَدِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيَبْحَثُ‏)‏ بِرَفْعِ الْمُثَلَّثَةِ ‏(‏الْقَاضِي‏)‏ قَبْلَ دُخُولِهِ بَلَدَ التَّوْلِيَةِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَنْ فِيهِ ‏(‏عَنْ حَالِ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ وَعُدُولِهِ‏)‏ وَالْمُزَكِّينَ سِرًّا وَعَلَانِيَةً لِيَدْخُلَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِحَالِ مَنْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُمْ فَيَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْخُرُوجِ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ فَفِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ فَحِينَ يَدْخُلُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يَنْدُبُ إذَا وُلِّيَ أَنْ يَدْعُوَ أَصْدِقَاءَهُ الْأُمَنَاءَ لِيُعْلِمُوهُ عُيُوبَهُ فَيَسْعَى فِي زَوَالِهَا كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ آخِرَ الْبَابِ الثَّانِي فِي جَامِعِ أَدَبِ الْقَضَاءِ ‏(‏وَيَدْخُلُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ‏)‏ صَبِيحَتَهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فِيهِ حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى فَإِنْ تَعَسَّرَ فَالْخَمِيسُ، وَإِلَّا فَالسَّبْتُ وَأَنْ يَدْخُلَ فِي عِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، فَفِي مُسْلِمٍ ‏{‏أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِهَا‏}‏ وَلِأَنَّهُ أَهْيَبُ لَهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ‏:‏ وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ لَهُ وَظِيفَةٌ مِنْ وَظَائِفِ الْخَيْرِ كَقِرَاءَةِ قُرْآنٍ أَوْ حَدِيثٍ، أَوْ ذِكْرٍ، أَوْ صَنْعَةٍ مِنْ الصَّنَائِعِ، أَوْ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ أَوَّلَ النَّهَارِ إنْ أَمْكَنَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ سَفَرًا، أَوْ إنْشَاءَ أَمْرٍ كَعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ ‏(‏وَيَنْزِلُ وَسَطَ الْبَلَدِ‏)‏ بِفَتْحِ السِّينِ فِي الْأَشْهَرِ لِيُسَاوِيَ أَهْلَهُ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ، هَذَا إذَا اتَّسَعَتْ خُطَّتُهُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَإِلَّا نَزَلَ حَيْثُ تَيَسَّرَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَوْضِعٌ يَعْتَادُ النُّزُولَ فِيهِ‏.‏ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ‏:‏ وَإِذَا دَخَلَ نَهَارًا قَصَدَ الْجَامِعَ فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ بِعَهْدِهِ فَقُرِئَ ثُمَّ أَمَرَ بِالنِّدَاءِ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَلْيَنْظُرْ مَا رُفِعَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ لِيَكُونَ قَدْ أَخَذَ فِي الْعَمَلِ وَاسْتَحَقَّ رِزْقَهُ ا هـ‏.‏

وَهَذَا يُفْهِمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّزْقَ مِنْ يَوْمِ الْوِلَايَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ يَوْمِ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ‏.‏ قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ‏:‏ وَقَدْ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ بِذَلِكَ فَقَالَ‏:‏ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى عَمَلِهِ، فَإِذَا وَصَلَ وَنَظَرَ اسْتَحَقَّ، وَإِنْ وَصَلَ وَلَمْ يَنْظُرْ فَإِنْ تَصَدَّى لِلنَّظَرِ اسْتَحَقَّ، وَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ كَالْأَجِيرِ إذَا سَلَّمَ نَفْسَهُ‏.‏ وَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّ لَمْ يَسْتَحِقَّ ا هـ ثُمَّ إنْ شَاءَ قَرَأَ الْعَهْدَ فَوْرًا، وَإِنْ شَاءَ وَاعَدَ النَّاسَ لِيَوْمٍ يَحْضُرُونَ فِيهِ لِيَقْرَأَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شُهُودٌ شَهِدُوا ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَيَنْظُرُ أَوَّلًا فِي أَهْلِ الْحَبْسِ، فَمَنْ قَالَ حُبِسْت بِحَقٍّ أَدَامَهُ، أَوْ ظُلْمًا فَعَلَى خَصْمِهِ حُجَّةٌ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا كَتَبَ إلَيْهِ لِيَحْضُرَ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيَنْظُرُ أَوَّلًا فِي أَهْلِ الْحَبْسِ‏)‏ لِأَنَّ الْحَبْسَ عَذَابٌ، فَيَنْظُرُ هَلْ يَسْتَحِقُّونَهُ أَوْ لَا‏؟‏‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ الْبُدَاءَةِ بِأَهْلِ الْحَبْسِ، قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ، لَكِنَّهُ خِلَافُ مَا نَقَلَاهُ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْعَهْدِ يَتَسَلَّمُ دِيوَانَ الْحُكْمِ، وَهُوَ مَا كَانَ عِنْدَ الْقَاضِي قَبْلَهُ مِنْ الْمَحَاضِرِ، وَهِيَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ مَا جَرَى مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ، وَالسِّجِلَّاتِ - وَهِيَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْحُكْمِ - وَحُجَجَ الْأَيْتَامِ وَأَمْوَالَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْحُجَجِ الْمُودَعَةِ فِي الدِّيوَانِ كَحُجَجِ الْأَوْقَافِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَقَدْ انْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ إلَيْهِ فَيَتَسَلَّمُهَا لِيَحْفَظَهَا عَلَى أَرْبَابِهَا‏.‏ وَهَذَا التَّقْدِيمُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي أَوَاخِرِ الْآدَابِ، لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَأَقَرَّهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مَا دَعَتْ إلَيْهِ مَصْلَحَةٌ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا يَأْتِي، وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَى أَهْلِ الْحَبْسِ مَا مَرَّ مَعَ أَنَّهُ عَذَابٌ لِأَنَّهُ أَهَمُّ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا جَزَمَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْهُمْ أَيْضًا كُلُّ مَا كَانَ أَهَمُّ مِنْهُ كَالنَّظَرِ فِي الْمَحَاجِيرِ وَالْجَائِعِينَ الَّذِينَ تَحْتَ نَظَرِهِ، وَمَا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ الْحَيَوَانِ فِي التَّرِكَاتِ وَغَيْرِهَا، وَمَا أَشْرَفَ مِنْ الْأَوْقَافِ وَأَمْلَاكِ مَحَاجِيرِهِ عَلَى السُّقُوطِ بِحَيْثُ يَتَعَيَّنُ الْفَوْرُ فِي تَدَارُكِهِ‏.‏ وَكَيْفِيَّةُ النَّظَرِ فِي أَمْرِ الْمَحْبُوسِينَ أَنْ يَأْمُرَ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ أَلَا إنَّ الْقَاضِيَ فُلَانًا يَنْظُرُ فِي أَمْرِ الْمَحْبُوسِينَ يَوْمَ كَذَا، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَحْبُوسٌ فَلْيَحْضُرْ وَيَبْعَثُ إلَى الْحَبْسِ أَمِينًا مِنْ أُمَنَائِهِ يَكْتُبُ فِي رِقَاعٍ أَسْمَاءَهُمْ وَمَا حُبِسَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ وَمَنْ حُبِسَ لَهُ فِي رُقْعَةٍ، فَإِذَا جَلَسَ الْيَوْمَ الْمَوْعُودَ وَحَضَرَ النَّاسُ نَصَبَ تِلْكَ الرِّقَاعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَأْخُذُ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَيَنْظُرُ فِي اسْمِ الْمُثْبَتِ فِيهَا، وَيَسْأَلُ عَنْ خَصْمِهِ، فَمَنْ قَالَ‏:‏ أَنَا خَصْمُهُ بَعَثَ مَعَهُ ثِقَةً إلَى الْحَبْسِ لِيَأْخُذَ بِيَدِهِ وَيُخْرِجَهُ، وَهَكَذَا يُحْضِرُ مِنْ الْمَحْبُوسِينَ بِقَدْرِ مَا يَعْرِفُ أَنَّ الْمَجْلِسَ يَحْتَمِلُ النَّظَرَ فِي أَمْرِهِمْ، وَيَسْأَلُهُمْ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِمْ‏.‏ ‏(‏فَمَنْ قَالَ حُبِسْت بِحَقٍّ‏)‏ فَعَلَ بِهِ مُقْتَضَاهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَدًّا أَقَامَهُ عَلَيْهِ وَأَطْلَقَهُ، أَوْ تَعْزِيرًا وَرَأَى إطْلَاقَهُ فَعَلَ، أَوْ مَالًا أَمَرَهُ بِأَدَائِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوفِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ إعْسَارُهُ ‏(‏أَدَامَهُ‏)‏ إلَى الْحَبْسِ وَإِلَّا نُودِيَ عَلَيْهِ‏:‏ لِاحْتِمَالِ خَصْمٍ آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ أُطْلِقَ ‏(‏أَوْ‏)‏ قَالَ حُبِسْتُ ‏(‏ظُلْمًا فَعَلَى خَصْمِهِ حُجَّةٌ‏)‏ إنْ كَانَ حَاضِرًا أَنَّهُ حَبَسَهُ بِحَقٍّ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا صُدِّقَ الْمَحْبُوسُ بِيَمِينِهِ وَأُطْلِقَ، وَلَا يُطَالَبُ بِكَفِيلٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَنَازَعَ الْبُلْقِينِيُّ فِي ذَلِكَ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ الْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ بِيَمِينِهِ وَلَا يُكَلَّفُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ مَعَهُ حُجَّةً سَابِقَةً، وَهِيَ أَنَّ الْحَاكِمَ حَبَسَهُ ‏(‏فَإِنْ كَانَ‏)‏ خَصْمُهُ ‏(‏غَائِبًا‏)‏ عَنْ الْبَلَدِ طَالَبَهُ بِكَفِيلِهِ أَوْ رَدَّهُ إلَى الْحَبْسِ وَ ‏(‏كَتَبَ إلَيْهِ‏)‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ إلَى قَاضِي بَلَدِ خَصْمِهِ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ الْمُقْرِي‏:‏ إلَى خَصْمِهِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ‏(‏لِيَحْضُرَ‏)‏ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أُطْلِقَ، وَنَازَعَ الْبُلْقِينِيُّ فِي ذَلِكَ وَقَالَ‏:‏ إنَّ إحْضَارَهُ مِنْ الْعَجَائِبِ إذْ يَصِيرُ الْمَحْبُوسُ الْمَطْلُوبُ طَالِبًا لِمَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا، وَرَدَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إلْزَامَهُ بِالْحُضُورِ، بَلْ إعْلَامَهُ بِذَلِكَ لِيَلْحَقَ بِحُجَّتِهِ فِي إدَامَةِ حَبْسِ الْمَحْبُوسِ إنْ كَانَ لَهُ بِذَلِكَ حُجَّةٌ، وَيَكْفِي الْمُدَّعِي إقَامَةُ بَيِّنَةٍ بِإِثْبَاتِ الْحَقِّ الَّذِي حَبَسَ بِهِ أَوْ بِأَنَّ الْقَاضِيَ الْمَعْزُولَ حَكَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ‏.‏

المتن‏:‏

ثُمَّ فِي الْأَوْصِيَاءِ، فَمَنْ ادَّعَى وِصَايَةً سَأَلَ عَنْهَا وَعَنْ حَالِهِ وَتَصَرُّفِهِ فَمَنْ وَجَدَهُ فَاسِقًا أَخَذَ الْمَالَ مِنْهُ، أَوْ ضَعِيفًا عَضَّدَهُ بِمُعِينٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏ثُمَّ‏)‏ بَعْدَ النَّظَرِ فِي أَهْلِ الْحَبْسِ يَنْظُرُ ‏(‏فِي‏)‏ حَالِ ‏(‏الْأَوْصِيَاءِ‏)‏ عَلَى الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَالسُّفَهَاءِ، لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِمَالِهِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُمْ أَوْلَى مِمَّا بَعْدَهُمْ‏.‏ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ يَبْدَأُ فِي الْأَوْصِيَاءِ وَنَحْوِهِمْ بِمَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْبُوسِينَ أَنَّ الْمَحَابِيسَ يَنْظُرُ لَهُمْ، وَالْأَوْصِيَاءَ وَنَحْوَهُمْ يَنْظُرُ عَلَيْهِمْ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

سَبِيلُ تَصَرُّفِهِ فِي مَالٍ عِنْدَهُ لِيَتِيمٍ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ كَتَصَرُّفِهِ فِي مَالِ الْغَائِبِ، إذْ الْعِبْرَةُ بِمَكَانِ الطِّفْلِ لَا الْمَالِ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الْحَجْرِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي الْأَوْصِيَاءِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْوِصَايَةِ عِنْدَهُ بِطَرِيقِهِ ‏(‏فَمَنْ ادَّعَى‏)‏ مِنْهُمْ ‏(‏وِصَايَةً‏)‏ بِكَسْرِ الْوَاوِ بِخَطِّهِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا اسْمٌ مِنْ أَوْصَيْتُ لَهُ جَعَلْتُهُ وَصِيًّا ‏(‏سَأَلَ عَنْهَا‏)‏ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِهَا بِالْبَيِّنَةِ هَلْ ثَبَتَتْ وِصَايَةٌ بِهَا أَوْ لَا‏؟‏ ‏(‏وَ‏)‏ سَأَلَ ‏(‏عَنْ حَالِهِ‏)‏ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَمَانَةِ وَالْكِفَايَةِ، وَهَذَا مَزِيدٌ عَلَى الْمُحَرَّرِ ‏(‏وَ‏)‏ عَنْ ‏(‏تَصَرُّفِهِ‏)‏ فِيهَا، فَإِنْ قَالَ‏:‏ صَرَفْتُ مَا أَوْصَى بِهِ، فَإِنْ كَانَ لِمُعَيَّنٍ لَمْ يَعْتَرِضْ لَهُ، وَهُوَ - كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ - ظَاهِرٌ إنْ كَانُوا أَهْلًا لِلْمُطَالَبَةِ، فَإِنْ كَانُوا مَحْجُورِينَ فَلَا أَوْ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ، وَهُوَ عَدْلٌ أَمْضَاهُ أَوْ فَاسِقٌ ضَمِنَهُ لِتَعَدِّيهِ، وَلَوْ فَرَّقَهَا أَجْنَبِيٌّ لِمُعَيَّنِينَ نَفَذَ أَوْ لِعَامَّةٍ ضَمِنَ، وَإِذَا كَانَ الْمُوصَى بِهِ بَاقِيًا تَحْتَ يَدِ الْوَصِيِّ ‏(‏فَمَنْ وَجَدَهُ‏)‏ عَدْلًا قَوِيًّا أَقَرَّهُ أَوْ ‏(‏فَاسِقًا أَخَذَ الْمَالَ مِنْهُ‏)‏ وُجُوبًا وَوَضَعَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمَنَاءِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

كَلَامُهُ يُفْهَمُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ مِمَّنْ شَكَّ فِي عَدَالَتِهِ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي، وَهُوَ الْأَقْرَبُ إلَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْأَمَانَةُ، وَقِيلَ‏:‏ يَنْزَعُ مِنْهُ حَتَّى يَثْبُتَ عَدَالَتُهُ‏.‏ وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ‏:‏ إنَّهُ الْمُخْتَارُ لِفَسَادِ الزَّمَانِ، وَمَحِلُّ الْوَجْهَيْنِ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ إذَا لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُ عِنْدَ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مَعَ الشَّكِّ جَزْمًا‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ إذَا عَدَلَ الشَّاهِدُ ثُمَّ شَهِدَ وَاقِعَةً أُخْرَى بِحَيْثُ طَالَ الزَّمَانُ احْتَاجَ إلَى الِاسْتِزْكَاءِ؛ لِأَنَّ طُولَ الزَّمَانِ يُغَيِّرُ الْأَحْوَالَ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ الْوِصَايَةَ قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ ثَبَتَ الْحَالُ فِيهَا فَلَا يَتَكَرَّرُ، وَلَوْ كَلَّفْنَا الْوَصِيَّ ذَلِكَ لَأَضْرَرْنَا بِالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِاشْتِغَالِ الْوَصِيِّ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ عَدَالَتِهِ وَلَا كَذَلِكَ الشَّاهِدُ ‏(‏أَوْ‏)‏ وَجَدَهُ عَدْلًا ‏(‏ضَعِيفًا‏)‏ عَنْ الْقِيَامِ بِهَا لِكَثْرَةِ الْمَالِ أَوْ غَيْرِهِ ‏(‏عَضَّدَهُ‏)‏ أَيْ قَوَّاهُ ‏(‏بِمُعِينٍ‏)‏ وَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ‏.‏ ثُمَّ بَعْدَ الْأَوْصِيَاءِ يَبْحَثُ عَنْ أُمَنَاءِ الْقَاضِي الْمَنْصُوبِينَ عَلَى الْأَطْفَالِ وَتَفْرِقَةِ الْوَصَايَا فَيَعْزِلُ مَنْ فَسَقَ مِنْهُمْ وَيُعِينُ الضَّعِيفَ بِآخَرَ، وَلَهُ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْأُمَنَاءِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ وَيُوَلِّي غَيْرَهُ بِخِلَافِ الْأَوْصِيَاءِ، لِأَنَّ الْأُمَنَاءَ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْأَوْصِيَاءِ وَأُخِّرُوا عَنْ الْأَوْصِيَاءِ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ فِيهِمْ أَبْعَدُ؛ لِأَنَّ نَاصِبَهُمْ الْقَاضِي، وَهُوَ لَا يُنَصِّبُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَهُ بِخِلَافِ الْأَوْصِيَاءِ، ثُمَّ يَبْحَثُ عَنْ الْأَوْقَافِ الْعَامَّةِ وَمُتَوَلِّيهَا، وَعَنْ الْخَاصَّةِ أَيْضًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ؛ لِأَنَّهَا تَئُولُ لِمَنْ لَا يَتَعَيَّنُ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَيُنْظَرُ هَلْ آلَتْ إلَيْهِمْ، وَهَلْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ مِنْهُمْ لِصِغَرٍ أَوْ نَحْوِهِ‏؟‏ وَيَبْحَثُ أَيْضًا عَنْ اللُّقَطَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا لِلْمُلْتَقِطِ أَوْ يَجُوزُ وَلَمْ يَخْتَرْ تَمَلُّكَهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَعَنْ الضَّوَالِّ فَيَحْفَظُ هَذِهِ الْأَمْوَالَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مُفْرَدَةً عَنْ أَمْثَالِهَا وَلَهُ خَلْطُهَا بِمِثْلِهَا إنْ ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ أُودِعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ، فَإِذَا ظَهَرَ مَالِكُهَا غَرِمَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَهُ بَيْعُهَا وَحِفْظُ ثَمَنِهَا لِمَصْلَحَةِ مَالِكِهَا وَيُقَدِّمُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِمَّا ذَكَرَ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ، وَيَسْتَخْلِفُ فِيمَا إذَا عَرَضَتْ حَادِثَةٌ حَالَ شُغْلِهِ بِهَذِهِ الْمُهِمَّاتِ مَنْ يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ أَوْ فِيمَا هُوَ فِيهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَيَتَّخِذُ مُزَكِّيًا

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ بَعْدَ ذَلِكَ ‏(‏يَتَّخِذُ‏)‏ بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ ‏(‏مُزَكِّيًا‏)‏ بِزَايٍ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِيُعَرِّفَهُ حَالَ مَنْ يَجْهَلُ مِنْ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْبَحْثُ عَنْهُمْ وَسَيَأْتِي شَرْطُهُ آخِرَ الْبَابِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِالْمُزَكِّي الْجِنْسَ، وَلَوْ قَالَ‏:‏ مُزَكِّينَ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكْفِي إلَّا أَنْ يُنَصِّبَ حَاكِمًا فِي الْجُرْحِ‏.‏

المتن‏:‏

مُكَاتِبًا، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا عَدْلًا عَارِفًا بِكِتَابَةِ مَحَاضِرَ وَسِجِلَّاتٍ، وَيُسْتَحَبُّ فِقْهٌ، وَوُفُورُ عَقْلٍ، وَجَوْدَةُ خَطٍّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ يَتَّخِذُ ‏(‏كَاتِبًا‏)‏ لِتَوَقُّعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالْحُكْمِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْكِتَابَةُ تَشْغَلُهُ وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتَّابٌ فَوْقَ الْأَرْبَعِينَ، وَإِنَّمَا يُسَنُّ اتِّخَاذُهُ إذَا لَمْ يَطْلُبَ أُجْرَةً أَوْ طَلَبَ، وَكَانَ يُرْزَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَإِلَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِئَلَّا يَتَغَالَى فِي الْأُجْرَةِ ‏(‏وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ‏)‏ أَيْ الْكَاتِبِ ‏(‏مُسْلِمًا عَدْلًا‏)‏ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْجِيلِيِّ لِتُؤْمَنَ خِيَانَتُهُ، إذْ قَدْ يَغْفُلُ الْقَاضِي عَنْ قِرَاءَةِ مَا يَكْتُبُهُ أَوْ يَقْرَؤُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ وَكَوْنُهُ ‏(‏عَارِفًا بِكِتَابَةِ مَحَاضِرَ وَسِجِلَّاتٍ‏)‏ وَكُتُبٍ حُكْمِيَّةٍ لِئَلَّا يُفْسِدَهَا حَافِظًا لِئَلَّا يَغْلَطَ فَلَا يَكْفِي مَنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ، وَهَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ‏.‏ أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِخَاصَّةِ أَمْرِهِ فَيَسْتَكْتِبُ فِيهِ مَنْ شَاءَ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَفْرَدَ الْمُصَنِّفُ الْكَاتِبَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَدٌ كَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ أَصْلِ الرَّوْضَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ شَيْئًا، بَلْ يَتَّخِذُ الْقَاضِي مَا يَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ، وَقَوْلُهُ‏:‏ مَحَاضِرَ مَجْرُورٌ بِالْفَتْحَةِ جَمْعُ مَحْضَرٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ مَا جَرَى لِلْمُتَحَاكِمِينَ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ أَوْ تَنْفِيذُهُ سُمِّيَ سِجِلًّا، وَقَدْ يُطْلَقُ الْمَحْضَرُ عَلَى السِّجِلِّ ‏(‏وَيُسْتَحَبُّ‏)‏ فِي الْكَاتِبِ ‏(‏فِقْهٌ‏)‏ زَائِدٌ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ أَحْكَامِ الْكِتَابَةِ لِئَلَّا يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ‏.‏ أَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهَا فَشَرْطٌ، وَهَذَا مَا جَمَعَ بِهِ بَيْنَ إطْلَاقِ الرَّافِعِيِّ الِاسْتِحْبَابَ وَإِطْلَاقِ الْمَاوَرْدِيُّ الِاشْتِرَاطَ ‏(‏وَوُفُورُ عَقْلٍ‏)‏ زَائِدٌ عَلَى الْعَقْلِ التَّكْلِيفِيِّ لِئَلَّا يُخْدَعَ وَيُدَلَّسَ عَلَيْهِ‏.‏ أَمَّا الْعَقْلُ التَّكْلِيفِيُّ فَشَرْطٌ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ، وَعِفَّةٌ عَنْ الطَّمَعِ لِئَلَّا يُسْتَمَالَ بِهِ ‏(‏وَجَوْدَةُ خَطٍّ‏)‏ أَيْ يَكُونُ خَطُّهُ حَسَنًا وَاضِحًا مَعَ ضَبْطِهِ الْحُرُوفَ وَتَرْتِيبِهَا فَلَا يَتْرُكُ فُسْحَةً يُمْكِنُ إلْحَاقُ شَيْءٍ فِيهَا وَتَفْصِيلُهَا فَلَا يَكْتُبُ سَبْعَةً مِثْلَ تِسْعَةٍ وَلَا ثَلَاثًا مِثْلَ ثَلَاثِينَ لِئَلَّا يَقَعَ الْغَلَطُ وَالِاشْتِبَاهُ‏.‏ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ‏:‏ الْخَطُّ الْحَسَنُ يَزِيدُ الْحَقَّ وُضُوحًا، وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ حَاسِبًا لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي كُتُبِ الْمَقَاسِمِ وَالْمَوَارِيثِ فَصِيحًا عَالِمًا بِلُغَاتِ الْخُصُومِ، وَأَنْ يُجْلِسَ كَاتِبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيُمْلِيَهُ مَا يُرِيدُ وَلِيَرَى مَا يَكْتُبُهُ‏.‏

المتن‏:‏

وَمُتَرْجِمًا، وَشَرْطُهُ عَدَالَةٌ، وَحُرِّيَّةٌ، وَعَدَدٌ، وَالْأَصَحُّ جَوَازُ أَعْمَى، وَ اشْتِرَاطُ عَدَدٍ فِي إسْمَاعِ قَاضٍ بِهِ صَمَمٌ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ يَتَّخِذُ ‏(‏مُتَرْجِمًا‏)‏ يُفَسِّرُ لِلْقَاضِي لُغَةَ الْمُتَخَاصِمِينَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ لَا يَعْرِفُ لُغَتَهُمَا فَلَا بُدَّ مِمَّنْ يُطْلِعُهُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ‏:‏ كَذَا أَطْلَقُوهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لِي اتِّخَاذُهُ عَلَى أَيِّ لُغَةٍ، فَإِنَّ اللُّغَاتِ لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ وَيَبْعُدُ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يُحِيطُ بِجَمِيعِهَا وَأَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ كُلِّ لُغَةٍ اثْنَيْنِ لِعِظَمِ الْمَشَقَّةِ فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ اللُّغَاتِ الَّتِي يَغْلِبُ وُجُودُهَا فِي عِلْمِهِ، وَفِيهِ عُسْرٌ أَيْضًا ‏(‏وَشَرْطُهُ عَدَالَةٌ، وَحُرِّيَّةٌ، وَعَدَدٌ‏)‏ وَلَفْظُ شَهَادَةٍ كَالشَّاهِدِ بِأَنْ يَقُولَ كُلٌّ مِنْهُمَا‏:‏ أَشْهَدُ أَنَّهُ يَقُولُ كَذَا، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَفَى فِي تَرْجَمَتِهِ مِثْلُ ذَلِكَ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَإِنْ كَانَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الزِّنَا رَجُلَانِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ ‏(‏وَالْأَصَحُّ جَوَازُ‏)‏ تَرْجَمَةِ ‏(‏أَعْمَى‏)‏؛ لِأَنَّ التَّرْجَمَةَ تَفْسِيرُ اللَّفْظِ الَّذِي سَمِعَهُ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُعَايَنَةٍ وَإِشَارَةٍ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ الَّتِي قَاسَ عَلَيْهَا الْوَجْهَ الثَّانِي‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحِلُّ الْجَوَازِ إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَجْلِسِ إلَّا الْخَصْمَانِ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ قَطْعًا كَمَا نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّهُ ‏(‏وَ‏)‏ الْأَصَحُّ ‏(‏اشْتِرَاطُ عَدَدٍ فِي إسْمَاعِ قَاضٍ بِهِ صَمَمٌ‏)‏ كَالْمُتَرْجِمِ فَإِنَّهُ يَنْقُلُ عَيْنَ اللَّفْظِ كَمَا أَنَّ ذَاكَ يَنْقُلُ مَعْنَاهُ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الْمُسْمِعَ لَوْ غَيَّرَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ وَالْحَاضِرُونَ بِخِلَافِ الْمُتَرْجِمِ، وَقَضِيَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَصْمَانِ أَصَمَّيْنِ أَيْضًا اُشْتُرِطَ الْعَدَدُ قَطْعًا، وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَا بُدَّ فِي الْمُسْمِعِ مِنْ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، فَيَقُولُ‏:‏ أَشْهَدُ أَنَّهُ يَقُولُ كَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى قِيَاسًا عَلَيْهِ، وَيَكْتَفِي بِإِسْمَاعِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْمَالِ قِيَاسًا عَلَيْهِ أَيْضًا، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فِي إسْمَاعِ قَاضٍ إلَى التَّصْوِيرِ بِالنَّقْلِ عَنْ الْخَصْمِ إلَى الْقَاضِي، وَأَمَّا إسْمَاعُ الْخَصْمِ الْأَصَمِّ مَا يَقُولُهُ الْقَاضِي وَالْخَصْمُ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَدٌ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ مَحْضٌ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ، وَكَالْأَصَمِّ فِي ذَلِكَ مَنْ لَا يَعْرِفُ لُغَةَ خَصْمِهِ أَوْ الْقَاضِي، وَأَشَارَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي إسْمَاعِ قَاضٍ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَمَمٌ يَسْمَعُ مَعَهُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ‏.‏ أَمَّا إنْ لَمْ يَسْمَعْ أَصْلًا لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُ كَمَا مَرَّ فِي شَرْطِ الْقَاضِي‏.‏ فُرُوعٌ‏:‏ لِلْقَاضِي وَإِنْ وَجَدَ كِفَايَتَهُ أَخَذَ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ مِمَّا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَتَفَرَّغَ لِلْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ لِلْقَضَاءِ وَوَجَدَ مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي فَرْضًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاجِدُ الْكِفَايَةَ، وَيُسَنُّ لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ إذَا كَانَ مُكْتَفِيًا تَرْكُ الْأَخْذِ، وَمَحِلُّ جَوَازِ الْأَخْذِ لِلْمُكْتَفِي وَلِغَيْرِهِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مُتَطَوِّعٌ بِالْقَضَاءِ صَالِحٌ لَهُ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ،‏.‏ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْزَقَ الْقَاضِي مِنْ خَاصِّ مَالِ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْآحَادِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهُ، وَفَارِقُ نَظِيرِهِ فِي الْمُؤْذَنِ بِأَنَّ ذَاكَ لَا يُوَرِّثُ فِيهِ تُهْمَةً وَلَا مَيْلًا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ لَا يَخْتَلِفُ، وَفِي الْمُفْتِي بِأَنَّ الْقَاضِيَ أَجْدَرُ بِالِاحْتِيَاطِ مِنْهُ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ الرَّافِعِيُّ رَجَّحَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الرِّشْوَةِ جَوَازَهُ وَهُنَا عَدَمَهُ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ مَا هُنَاكَ فِي الْمُحْتَاجِ وَمَا هُنَا فِي غَيْرِهِ‏.‏ وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْقَضَاءِ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهَا وَأُجْرَةُ الْكَاتِبِ، وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي وَثَمَنُ الْوَرِقِ الَّذِي يَكْتُبُ فِيهِ الْمَحَاضِرَ وَالسِّجِلَّاتِ وَغَيْرَهُمَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَالٌ أَوْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ إلَى مَا هُوَ أَهَمُّ فَعَلَى مَنْ لَهُ الْعَمَلُ مِنْ مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ إنْ شَاءَ كِتَابَةَ مَا جَرَى فِي خُصُومَتِهِ، وَإِلَّا فَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ يُعْلِمُهُ الْقَاضِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكْتُبْ مَا جَرَى فَقَدْ يَنْسَى شَهَادَةَ الشُّهُودِ وَحَكَّمَ نَفْسَهُ‏.‏ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِنَفْسِهِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ خَيْلٍ وَغِلْمَانٍ وَدَارٍ وَأَمْتِعَةٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ؛ لِبُعْدِ الْعَهْدِ عَنْ زَمَنِ النُّبُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِلنَّصْرِ بِالرُّعْبِ فِي الْقُلُوبِ، فَلَوْ اقْتَصَرَ الْيَوْمَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُطَعْ وَتَعَطَّلَتْ الْأُمُورُ، وَيَرْزُقُ الْإِمَامُ أَيْضًا فِي بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ مَنْ كَانَ عَمَلُهُ مَصْلَحَةً عَامَّةً لِلْمُسْلِمِينَ كَالْأَمِيرِ، وَالْمُفْتِي، وَالْمُحْتَسِبِ، وَالْمُؤَذِّنِ، وَإِمَامِ الصَّلَاةِ، وَمُعَلِّمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْقَاسِمِ، وَالْمُقَوِّمِ وَالْمُتَرْجِمِ وَكَاتِبِ الصُّكُوكِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ لَمْ يُنْدَبْ أَنْ يُعَيِّنَ قَاسِمًا وَلَا كَاتِبًا وَلَا مُقَوِّمًا وَلَا مُتَرْجِمًا وَلَا مُسْمِعًا وَلَا مُزَكِّيًا، وَذَلِكَ لِئَلَّا يُغَالُوا بِالْأُجْرَةِ‏.‏

المتن‏:‏

وَيَتَّخِذُ دِرَّةً لِلتَّأْدِيبِ، وَ سِجْنًا لِأَدَاءِ حَقٍّ وَلِتَعْزِيرٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيَتَّخِذُ دِرَّةً‏)‏ بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ‏(‏لِلتَّأْدِيبِ‏)‏ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَدْ يُفْهَمُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُؤَدِّبُ بِالسَّوْطِ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ لَهُ ذَلِكَ إنْ أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ‏.‏ ‏:‏ قَالَ الشَّعْبِيُّ‏:‏ كَانَتْ دِرَّةُ عُمَرَ أَهْيَبَ مِنْ سَيْفِ الْحَجَّاجِ‏.‏ قَالَ الدَّمِيرِيُّ‏:‏ وَفِي حِفْظِي مِنْ شَيْخِنَا أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ نَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مَا ضَرَبَ بِهَا أَحَدًا عَلَى ذَنْبٍ وَعَادَ إلَيْهِ ‏(‏وَ‏)‏ يَتَّخِذُ ‏(‏سِجْنًا‏)‏ ‏(‏لِأَدَاءِ حَقٍّ‏)‏ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الْآدَمِيِّ ‏(‏وَلِتَعْزِيرٍ‏)‏ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ اشْتَرَى دَارًا بِمَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَجَعَلَهَا سِجْنًا، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ بِأَرْبَعِ مِائَةٍ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ امْتَنَعَ مَدْيُونٌ مِنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ تَخَيَّرَ الْقَاضِي بَيْنَ بَيْعِ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبَيْنَ سَجْنِهِ لِيَبِيعَ مَالَ نَفْسِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ التَّفْلِيسِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْحَابِ، وَلَا يُسْجَنُ وَالِدٌ بِدَيْنِ وَلَدِهِ فِي الْأَصَحِّ، وَلَا مَنْ اُسْتُؤْجِرَتْ عَيْنُهُ لِعَمَلٍ وَتَعَذَّرَ عَمَلُهُ فِي السِّجْنِ كَمَا فِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ، وَنَفَقَةُ الْمَسْجُونِ فِي مَالِهِ، وَكَذَا أُجْرَةُ السِّجْنِ وَالسَّجَّانِ، وَلَوْ اسْتَشْعَرَ الْقَاضِي مِنْ الْمَحْبُوسِ الْفِرَارَ مِنْ حَبْسِهِ، فَلَهُ نَقْلُهُ إلَى حَبْسِ الْجَرَائِمِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ ابْنِ الْقَاصِّ، وَلَوْ سُجِنَ لِحَقِّ رَجُلٍ فَجَاءَ آخَرُ، وَادَّعَى عَلَيْهِ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ إذْنِ غَرِيمِهِ‏.‏ ثُمَّ رَدَّهُ، وَالْحَبْسُ لِمُعْسِرٍ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ لَهُ، وَيَتَّخِذُ أَعْوَانًا ثِقَاتٍ‏.‏ قَالَ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ‏:‏ وَأُجْرَةُ الْعَوْنِ عَلَى الطَّالِبِ إنْ لَمْ يَمْتَنِعْ خَصْمُهُ مِنْ الْحُضُورِ، فَإِنْ امْتَنَعَ فَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ لِتَعَدِّيهِ بِالِامْتِنَاعِ‏.‏

المتن‏:‏

وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُ مَجْلِسِهِ فَسِيحًا بَارِزًا مَصُونًا مِنْ أَذَى حَرٍّ وَبَرْدٍ لَائِقًا بِالْوَقْتِ وَالْقَضَاءِ لَا مَسْجِدًا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُ‏)‏ ‏(‏مَجْلِسِهِ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏فَسِيحًا‏)‏ لِأَنَّ الضَّيِّقَ يَتَأَذَّى مِنْهُ الْخُصُومُ ‏(‏بَارِزًا‏)‏ أَيْ ظَاهِرًا لِيَعْرِفَهُ مَنْ أَرَادَهُ مِنْ مُسْتَوْطِنٍ وَغَرِيبٍ ‏(‏مَصُونًا مِنْ أَذَى حَرٍّ وَبَرْدٍ‏)‏ بِأَنْ يَكُونَ فِي الصَّيْفِ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ، وَفِي الشِّتَاءِ فِي كَنٍّ، وَيَكُونُ مَصُونًا أَيْضًا مِنْ كُلِّ مَا يُؤْذِي مِنْ نَحْوِ الرَّوَائِحِ وَالدُّخَانِ وَالْغُبَارِ ‏(‏لَائِقًا بِالْوَقْتِ‏)‏ فَيَجْلِسُ فِي كُلِّ فَصْلٍ مِنْ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَغَيْرِهِمَا بِمَا يُنَاسِبُهُ فَيَجْلِسُ فِي الصَّيْفِ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ‏.‏ وَفِي الشِّتَاءِ فِي كَنٍّ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلُ مَصُونًا، وَلَوْ عَبَّرَ بِمَا قَالَهُ فِي الْمُحَرَّرِ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ لَائِقًا بِالْوَقْتِ لَا يَتَأَذَّى فِيهِ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ نَفْسَ اللَّائِقِ لَا صِفَةً أُخْرَى كَانَ أَوْلَى، وَزَادَ عَلَى الْمُحَرَّرِ، قَوْلُهُ ‏(‏وَالْقَضَاءِ‏)‏ كَأَنْ يَكُونُ دَارًا ‏(‏لَا مَسْجِدًا‏)‏ فَيُكْرَهُ اتِّخَاذُهُ مَجْلِسًا لِلْحُكْمِ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْقَاضِي لَا يَخْلُو عَنْ اللَّغَطِ وَارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ لِإِحْضَارِ الْمَجَانِينِ وَالصِّغَارِ وَالْحُيَّضِ وَالْكُفَّارِ وَالدَّوَابِّ، وَالْمَسْجِدُ يُصَانُ عَنْ ذَلِكَ وَفِي مُسْلِمٍ ‏{‏أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّتَهُ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ‏:‏ إنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، إنَّمَا بُنِيَتْ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ‏}‏، فَإِنْ اتَّفَقَتْ قَضِيَّةٌ أَوْ قَضَايَا وَقْتَ حُضُورِهِ فِي الْمَسْجِدِ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَا بَأْسَ بِفَصْلِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ خُلَفَائِهِ فِي الْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَذَا إذَا احْتَاجَ لِلْجُلُوسِ فِيهِ لِعُذْرٍ مِنْ مَطَرٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ جَلَسَ فِيهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ دُونِهَا مَنَعَ الْخُصُومَ مِنْ الْخَوْضِ فِيهِ بِالْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَنَحْوِهِمَا، بَلْ يَقْعُدُونَ خَارِجَهُ وَيُنَصِّبُ مَنْ يُدْخِلُ عَلَيْهِ خَصْمَيْنِ خَصْمَيْنِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ فِيهِ أَشَدُّ كَرَاهَةً كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ‏:‏ يَحْرُمُ إقَامَتُهَا فِيهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا خِيفَ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ مِنْ دَمٍ وَنَحْوِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مِنْ الْآدَابِ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى مُرْتَفِعٍ كَدَكَّةٍ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَى النَّاسِ وَعَلَيْهِمْ الْمُطَالَبَةُ، وَأَنْ يَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ بِفِرَاشٍ وَوِسَادَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالزُّهْدِ وَالتَّوَاضُعِ لِيَعْرِفَهُ النَّاسُ وَلِيَكُونَ أَهْيَبَ لِلْخُصُومِ وَأَرْفَقَ بِهِ فَلَا يَمَلَّ، وَأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْمَجَالِسِ كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَنْ لَا يَتَّكِئَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَأَنْ يَدْعُوَ عَقِبَ جُلُوسِهِ بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ، وَالْأَوْلَى مَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ ‏{‏أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْت عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ‏}‏‏.‏ قَالَ فِي الْأَذْكَارِ‏:‏ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ‏.‏ قَالَ ابْنُ وَقَّاصٍ‏:‏ وَسَمِعْتُ أَنَّ الشَّعْبِيَّ كَانَ يَقُولُهُ إذَا خَرَجَ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَيَزِيدُ فِيهِ‏:‏ أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ‏:‏ اللَّهُمَّ أَعِنِّي بِالْعِلْمِ، وَزَيِّنِي بِالْحِلْمِ، وَأَلْزِمْنِي التَّقْوَى حَتَّى لَا أَنْطِقَ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا أَقْضِيَ إلَّا بِالْعَدْلِ، وَأَنْ يَأْتِيَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ رَاكِبًا، وَيَسْتَعْمِلَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ الْعِمَامَةِ وَالطَّيْلَسَانِ، وَيَنْدُبُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى النَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا‏.‏ ‏(‏وَيُكْرَهُ‏)‏ لَهُ ‏(‏أَنْ يَقْضِيَ فِي حَالِ غَضَبٍ وَجُوعٍ وَشِبَعٍ مُفْرِطَيْنِ، وَ‏)‏ فِي ‏(‏كُلِّ حَالٍ يَسُوءُ خَلْقُهُ فِيهِ‏)‏ كَالْمَرَضِ، وَمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَشِدَّةِ الْحُزْنِ، وَالسُّرُورِ، وَغَلَبَةِ النُّعَاسِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ ‏{‏لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ‏}‏ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ ‏"‏ لَا يَقْضِي ‏"‏ وَفِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ ‏{‏لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ مَهْمُومٌ وَلَا مُصَابٌ، وَلَا يَقْضِي وَهُوَ جَائِعٌ‏}‏ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ فِي الْمَطْلَبِ‏:‏ لَوْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَجَالٌ وَغَيْرُهُ لَمْ يَبْعُدْ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغَضَبُ لِلَّهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ إنَّهُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، وَإِنْ اسْتَثْنَى الْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ الْغَضَبَ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَشْوِيشُ الْفِكْرِ، وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ‏.‏ نَعَمْ تَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْحُكْمِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ الْحُكْمُ عَلَى الْفَوْرِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنْ قَضَى مَعَ تَغَيُّرِ خُلُقِهِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ لِقِصَّةِ الزُّبَيْرِ الْمَشْهُورَةِ،‏.‏ وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا حَيْثُ لَا زَحْمَةَ وَقْتَ الْحُكْمِ لِخَبَرِ ‏{‏مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا فَاحْتَجَبَ حَجَبَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَ إسْنَادَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ لِلْحُكْمِ بِأَنْ كَانَ فِي وَقْتِ خَلَوَاتِهِ أَوْ كَانَ ثَمَّ زَحْمَةً لَمْ يُكْرَهْ نَصْبُهُ، وَالْبَوَّابُ وَهُوَ مَنْ يَقْعُدُ بِالْبَابِ لِلْإِحْرَازِ، وَيَدْخُلُ عَلَى الْقَاضِي لِلِاسْتِئْذَانِ كَالْحَاجِبِ فِيمَا ذَكَرَ‏.‏ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ أَمَّا مَنْ وَظِيفَتُهُ تَرْتِيبُ الْخُصُومِ وَالْإِعْلَامُ بِمَنَازِلِ النَّاسِ - أَيْ وَهُوَ الْمُسَمَّى الْآنَ بِالنَّقِيبِ، فَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِهِ، وَصَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ بِاسْتِحْبَابِهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي حَالِ غَضَبٍ وَجُوعٍ وَشِبَعٍ مُفْرِطَيْنِ، وَكُلِّ حَالٍ يَسُوءُ خُلُقُهُ فِيهِ، وَيُنْدَبُ أَنْ يُشَاوِرَ الْفُقَهَاءَ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيُنْدَبُ‏)‏ عِنْدَ اخْتِلَافِ وُجُوهِ النَّظَرِ وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي حُكْمٍ ‏(‏أَنْ يُشَاوِرَ الْفُقَهَاءَ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ‏}‏ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهَا، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ تَصِيرَ سُنَّةً لِلْحُكَّامِ‏.‏ أَمَّا الْحُكْمُ الْمَعْلُومُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ فَلَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

الْمُرَادُ بِالْفُقَهَاءِ كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ مِنْ الْأَصْحَابِ الَّذِينَ يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي الْإِفْتَاءِ فَيَدْخُلُ الْأَعْمَى وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ، وَيَخْرُجُ الْفَاسِقُ وَالْجَاهِلُ‏.‏ وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ‏:‏ لَا يُشَاوِرُ مَنْ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ عَلَى الْأَصَحِّ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَإِذَا أَشْكَلَ الْحُكْمُ تَكُونُ الْمُشَاوَرَةُ وَاجِبَةً، وَإِلَّا فَمُسْتَحَبَّةً ا هـ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ لَا يُشَاوِرُ مَنْ دُونَهُ فِيهِ كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ نَظَرٌ، فَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْمَفْضُولِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْفَاضِلِ، وَيَرُدُّهُ أَيْضًا مُشَاوَرَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

المتن‏:‏

وَأَنْ لَا يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ بِنَفْسِهِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ يُنْدَبُ ‏(‏أَنْ لَا يَشْتَرِيَ، وَ‏)‏ لَا ‏(‏يَبِيعَ بِنَفْسِهِ‏)‏ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُحَابَى فَيَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى مَنْ يُحَابِيهِ إذَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ حُكُومَةٌ، وَالْمُحَابَاةُ فِيهَا رِشْوَةٌ أَوْ هَدِيَّةٌ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

عَطْفُ هَذَيْنِ عَلَى مَا قَبْلَهُمَا يُفْهِمُ كَوْنَهُمَا خِلَافَ الْأُولَى، لَكِنَّ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا أَنَّهُمَا مَكْرُوهَانِ وَمَعَ ذَلِكَ فَغَيْرُهُمَا مِنْ بَقِيَّةِ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ إجَارَةٍ وَغَيْرِهَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بَلْ نَصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ فِي نَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَلَا أَمْرِ صَنْعَتِهِ، بَلْ يَكِلُهُ إلَى غَيْرِهِ تَفْرِيغًا لِقَلْبِهِ‏.‏ وَاسْتَثْنَى الزَّرْكَشِيُّ مُعَامَلَةَ أَبْعَاضِهِ لِانْتِفَاءِ الْمَعْنَى وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ لَهُمْ، وَمَا قَالَهُ لَا يَأْتِي مَعَ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا يَكُونَ لَهُ وَكِيلٌ مَعْرُوفٌ، فَإِنْ أَهْدَى إلَيْهِ مَنْ لَهُ خُصُومَةٌ أَوْ لَمْ يُهْدِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ حَرُمَ قَبُولُهَا، وَإِنْ كَانَ يُهْدَى وَلَا خُصُومَةَ جَازَ بِقَدْرِ الْعَادَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُثِيبَ عَلَيْهَا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ يُنْدَبُ أَنْ ‏(‏لَا يَكُونَ لَهُ وَكِيلٌ مَعْرُوفٌ‏)‏ كَيْ لَا يُحَابَى أَيْضًا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كُرِهَ، وَالْمُعَامَلَةُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، فَإِنْ عُرِفَ وَكِيلُهُ اسْتَبْدَلَ غَيْرَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَكِيلًا عَقَدَ لِنَفْسِهِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنْ وَقَعَتْ لِمَنْ عَامَلَهُ خُصُومَةٌ أَنَابَ نَدْبًا غَيْرَهُ فِي فَصْلِهَا خَوْفَ الْمَيْلِ إلَيْهِ ‏(‏فَإِنْ‏)‏ ‏(‏أَهْدَى إلَيْهِ مَنْ لَهُ خُصُومَةٌ‏)‏ فِي الْحَالِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّنْ يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ أَمْ لَا، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مَحِلِّ وِلَايَتِهِ أَمْ لَا ‏(‏أَوْ لَمْ‏)‏ يَكُنْ لَهُ خُصُومَةٌ لَكِنَّهُ لَمْ ‏(‏يُهْدِ‏)‏ لَهُ ‏(‏قَبْلَ وِلَايَتِهِ‏)‏ الْقَضَاءَ ثُمَّ أَهْدَى إلَيْهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ هَدِيَّةً ‏(‏حَرُمَ‏)‏ عَلَيْهِ ‏(‏قَبُولُهَا‏)‏ أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِخَبَرِ ‏{‏هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ‏}‏ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ‏.‏ وَرَوَى ‏{‏هَدَايَا الْعُمَّالِ سُحْتٌ‏}‏‏.‏ وَرَوَى ‏{‏هَدَايَا السُّلْطَانِ سُحْتٌ‏}‏ وَلِأَنَّهَا تَدْعُو إلَى الْمَيْلِ إلَيْهِ، وَيَنْكَسِرُ بِهَا قَلْبُ خَصْمِهِ، وَمَا وَقَعَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ فِي غَيْرِ مَحِلِّ وِلَايَتِهِ سَبَبُهُ خَلَلٌ وَقَعَ فِي نُسَخِ الرَّافِعِيِّ السَّقِيمَةِ‏.‏ وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ سَبَبَهَا الْعَمَلُ ظَاهِرًا، وَلَا يَمْلِكُهَا فِي الصُّورَتَيْنِ لَوْ قَبِلَهَا وَيَرُدُّهَا عَلَى مَالِكِهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ وَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَهَا إلَيْهِ فِي مَحِلِّ وِلَايَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَرُمَتْ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ ذَكَرَ فِيهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهَيْنِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ هَدِيَّةُ أَبْعَاضِهِ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ، إذْ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ لَهُمْ ‏(‏وَإِنْ كَانَ يُهْدَى‏)‏ إلَيْهِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ ‏(‏وَ‏)‏ الْحَالُ أَنَّهُ ‏(‏لَا خُصُومَةَ‏)‏ لَهُ ‏(‏جَازَ‏)‏ قَبُولُهَا إنْ كَانَتْ الْهَدِيَّةُ ‏(‏بِقَدْرِ الْعَادَةِ‏)‏ السَّابِقَةِ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ فِي صِفَةِ الْهَدِيَّةِ وَقَدْرِهَا، وَلَوْ قَالَ كَالْعَادَةِ دَخَلَتْ الصِّفَةُ، وَذَلِكَ لِخُرُوجِهَا حِينَئِذٍ عَنْ سَبَبِ الْوِلَايَةِ، فَانْتَفَتْ التُّهْمَةُ ‏(‏وَالْأَوْلَى‏)‏ إنْ قَبِلَهَا ‏(‏أَنْ‏)‏ يَرُدَّهَا أَوْ ‏(‏يُثِيبَ عَلَيْهَا‏)‏ أَوْ يَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنْ التُّهْمَةِ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُهَا وَيُثِيبُ عَلَيْهَا‏.‏ أَمَّا إذَا زَادَتْ عَلَى الْمُعْتَادِ فَكَمَا لَوْ لَمْ يَعْهَدْ مِنْهُ كَذَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ، وَقَضِيَّتُهُ تَحْرِيمُ الْجَمِيعِ، لَكِنْ قَالَ الرُّويَانِيُّ نَقْلًا عَنْ الْمَذْهَبِ‏:‏ إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْهَدِيَّةِ جَازَ قَبُولُهَا لِدُخُولِهَا فِي الْمَأْلُوفِ وَإِلَّا فَلَا، وَفِي الذَّخَائِرِ‏:‏ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ الزِّيَادَةُ - أَيْ بِجِنْسٍ أَوْ قَدْرٍ - حَرُمَ قَبُولُ الْجَمِيعِ، وَإِلَّا فَالزِّيَادَةُ فَقَطْ؛ لِأَنَّهَا حَدَّثَتْ بِالْوِلَايَةِ، وَصَوَّبَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَجَعَلَهُ الْإِسْنَوِيُّ الْقِيَاسَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنْ زَادَ فِي الْمَعْنَى كَأَنْ أَهْدَى مَنْ عَادَتُهُ قُطْنٌ حَرِيرًا فَقَدْ قَالُوا‏:‏ يَحْرُمُ أَيْضًا، لَكِنْ هَلْ يَبْطُلُ فِي الْجَمِيعِ أَوْ يَصِحُّ مِنْهَا بِقَدْرِ قِيمَةِ الْمُعْتَادِ، فِيهِ نَظَرٌ، وَاسْتَظْهَرَ الْإِسْنَوِيُّ الْأَوَّلَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ إنْ كَانَ لِلزِّيَادَةِ وَقَعَ، وَإِلَّا فَلَا عِبْرَةَ بِهَا، وَالضِّيَافَةُ وَالْهِبَةُ كَالْهَدِيَّةِ، وَكَذَا الصَّدَقَةُ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا، وَالزَّكَاةُ كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ الدَّفْعُ إلَيْهِ، وَالْعَارِيَّةُ إنْ كَانَتْ مِمَّا يُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ حُكْمُهَا كَالْهَدِيَّةِ، وَإِلَّا فَلَا كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَبُولُ الرِّشْوَةِ حَرَامٌ، وَهِيَ مَا يُبْذَلُ لَهُ لِيَحْكُمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَوْ لِيَمْتَنِعَ مِنْ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَذَلِكَ لِخَبَرِ ‏{‏لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ‏}‏ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحُوهُ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَأْخُذُ عَلَيْهِ الْمَالَ إنْ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَأَخْذَ الْمَالَ فِي مُقَابَلَتِهِ حَرَامٌ، أَوْ بِحَقٍّ فَلَا يَجُوزُ تَوْقِيفُهُ عَلَى الْمَالِ إنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَرُوِيَ ‏{‏إنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخَذَ الْهَدِيَّةَ فَقَدْ أَكَلَ السُّحْتَ، وَإِذَا أَخَذَ الرِّشْوَةَ بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ‏}‏، وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقِيلَ‏:‏ إذَا أَخَذَهَا مُسْتَحِلًّا، وَقِيلَ‏:‏ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ وَسَبَبٌ مُوصِلٌ إلَيْهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ‏.‏ فُرُوعٌ‏:‏ لَيْسَ لِلْقَاضِي حُضُورُ وَلِيمَةِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَالَةَ الْخُصُومَةِ، وَلَا حُضُورُ وَلِيمَتِهِمَا، وَلَوْ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الْوِلَايَةِ لِخَوْفِ الْمَيْلِ، وَلَهُ تَخْصِيصُ إجَابَةِ مَنْ اعْتَادَ تَخْصِيصَهُ، وَيُنْدَبُ إجَابَةُ غَيْرِ الْخَصْمَيْنِ إنْ عَمَّمَ الْمُولِمُ النِّدَاءَ لَهَا وَلَمْ يَقْطَعْهُ كَثْرَةُ الْوَلَائِمِ عَنْ الْحُكْمِ وَإِلَّا فَيَتْرُكُ الْجَمِيعَ، وَيُكْرَهُ لَهُ حُضُورُ وَلِيمَةٍ اُتُّخِذَتْ لَهُ خَاصَّةً، أَوْ لِلْأَغْنِيَاءِ وَدُعِيَ فِيهِمْ بِخِلَافِ مَا لَوْ اُتُّخِذَتْ لِلْجِيرَانِ أَوْ لِلْعُلَمَاءِ وَهُوَ فِيهِمْ، وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ، دُونَ الْآخَرِ، وَلَا يُلْحِقُ فِيمَا ذُكِرَ الْمُفْتِيَ وَالْوَاعِظَ وَمُعَلِّمَ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، إذْ لَيْسَ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ الْإِلْزَامِ‏.‏ وَلِلْقَاضِي أَنْ يَشْفَعَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَيَزِنَ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُمَا، وَأَنْ يُعِيدَ الْمَرْضَى، وَيَشْهَدَ الْجَنَائِزَ، وَيَزُورَ الْقَادِمِينَ وَلَوْ كَانُوا مُتَخَاصِمِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ‏.‏ قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ‏:‏ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّعْمِيمُ أَتَى بِمُمْكِنِ كُلِّ نَوْعٍ وَخَصَّ مَنْ عَرَفَهُ وَقَرُبَ مِنْهُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلَائِمِ إذَا كَثُرَتْ بِأَنَّ أَظْهَرَ الْأَغْرَاضِ فِيهَا الثَّوَابُ لَا الْإِكْرَامُ، وَفِي الْوَلَائِمِ بِالْعَكْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الشَّاهِدِ، أَوْ بِتَيَقُّنِ الْقَاضِي مِنْهُ بِأَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى يَوْمَ كَذَا فِي بَلَدِ كَذَا وَقَدْ رَآهُ الْقَاضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي غَيْرِهِ فَيُعَزِّرُهُ بِمَا يَرَاهُ وَيُشَهِّرُهُ، وَلَا تَكْفِي إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهُ شَهِدَ زُورًا لِاحْتِمَالِ زُورِهَا، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ إقَامَتُهَا بِالْإِقْرَارِ بِهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ وَرَقِيقِهِ وَشَرِيكِهِ فِي الْمُشْتَرَكِ، وَكَذَا أَصْلُهُ وَفَرْعُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيْحُكُمْ لَهُ وَلِهَؤُلَاءِ الْإِمَامُ أَوْ قَاضٍ آخَرَ، وَكَذَا نَائِبُهُ عَلَى الصَّحِيحِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ فِي مَوَانِعِ حُكْمِ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ ‏(‏وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ‏)‏؛ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ تَعْزِيرُ مَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِهِ كَقَوْلِهِ‏:‏ حَكَمْتَ بِالْجَوْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ صُوَرًا تَتَضَمَّنُ حُكْمَهُ فِيهَا لِنَفْسِهِ وَيَنْفُذُ‏:‏ الْأُولَى أَنْ يَحْكُمَ لِمَحْجُورِهِ بِالْوَصِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ‏.‏ وَأَنْ يَضْمَنَ اسْتِيلَاءَهُ عَلَى الْمَالِ الْمَحْكُومِ بِهِ وَتَصَرُّفَهُ فِيهِ، وَفِي مَعْنَاهُ حُكْمُهُ عَلَى مَنْ فِي جِهَتِهِ مَالٌ لِوَقْفٍ تَحْتَ نَظَرِهِ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ‏.‏ الثَّانِيَةُ‏:‏ الْأَوْقَافُ الَّتِي شَرْطُ النَّظَرِ فِيهَا لِلْحَاكِمِ، أَوْ صَارَ فِيهَا النَّظَرُ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ لِانْقِرَاضِ نَاظِرِهَا الْخَاصِّ لَهُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهَا وَمُوجَبِهَا وَإِنْ تَضَمَّنَ الْحُكْمَ لِنَفْسِهِ فِي الِاسْتِيلَاءِ أَوْ التَّصَرُّفِ‏.‏ الثَّالِثَةُ‏:‏ لِلْإِمَامِ الْحُكْمُ بِانْتِقَالِ مِلْكٍ إلَى بَيْتِ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَيْهِ بِجِهَةِ الْإِمَامَةِ، وَلِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِهِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ يَصْرِفُ إلَيْهِ مِنْ جَامِكِيَّتِهِ وَنَحْوِهَا ‏(‏وَ‏)‏ لَا ‏(‏رَقِيقِهِ‏)‏ بِالْجَرِّ أَيْ لَا يَحْكُمُ لَهُ فِي تَعْزِيرٍ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ مَالٍ لِلتُّهْمَةِ‏.‏ وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْهُ أَيْضًا صُوَرًا‏.‏ أُولَاهَا‏:‏ حُكْمُهُ لِرَقِيقِهِ بِجِنَايَةٍ عَلَيْهِ قَبْلَ رِقِّهِ بِأَنْ جَنَى مُلْتَزَمٌ عَلَى ذِمِّيٍّ ثُمَّ نَقَضَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَاسْتُرِقَّ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَيُوقَفُ الْمَالُ إلَى عِتْقِهِ، فَإِنْ مَاتَ رَقِيقًا فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فَيْءٌ‏.‏ ثَانِيهَا‏:‏ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِإِعْتَاقِهِ الْخَارِجُ مِنْ الثُّلُثِ إذَا قُلْنَا‏:‏ إنَّ كَسْبَهُ لَهُ دُونَ الْوَارِثِ وَكَانَ الْوَارِثُ حَاكِمًا فَلَهُ الْحُكْمُ بِطَرِيقِهِ‏.‏ ثَالِثُهَا‏:‏ الْعَبْدُ الْمَنْذُورُ إعْتَاقُهُ ‏(‏وَ‏)‏ لَا ‏(‏شَرِيكِهِ‏)‏ يَحْكُمُ لَهُ ‏(‏فِي‏)‏ الْمَالِ ‏(‏ الْمُشْتَرَكِ‏)‏ بَيْنَهُمَا لِلتُّهْمَةِ‏.‏ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الشَّرِيكِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ ‏(‏وَكَذَا أَصْلُهُ وَفَرْعُهُ‏)‏ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ ‏(‏عَلَى الصَّحِيحِ‏)‏ لِأَنَّهُمْ أَبْعَاضُهُ فَيُشْبِهُ قَضَاءَهُ لَهُمْ قَضَاءَهُ لِنَفْسِهِ وَرَقِيقُ أَصْلِهِ وَ فَرْعِهِ كَأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ وَرَقِيقُ أَحَدِهِمَا فِي الْمُشْتَرَكِ كَذَلِكَ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ يَنْفُذُ حُكْمُهُ لَهُمْ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَسِيرُ الْبَيِّنَةِ فَلَا تَظْهَرُ مِنْهُ تُهْمَةٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَحِلَّ الْخِلَافِ عِنْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ‏.‏ أَمَّا قَضَاؤُهُ بِالْعِلْمِ فَلَا يَنْفُذُ قَطْعًا، وَاحْتَرَزَ بِالْحُكْمِ لِمَنْ ذَكَرَ عَنْ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عَلَيْهِمْ‏.‏ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ وَلَوْ حَكَمَ عَلَى نَفْسِهِ وَآخَذْنَاهُ بِهِ هَلْ هُوَ إقْرَارٌ أَوْ حُكْمٌ‏؟‏‏.‏ وَجْهَانِ أَوْجُهُهُمَا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الثَّانِي، وَلَوْ حَكَمَ لِوَلَدِهِ عَلَى وَلَدِهِ، أَوْ لِأَصْلِهِ عَلَى فَرْعِهِ أَوْ عَكْسِهِ لَمْ يَصِحَّ كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا مَرَّ، وَهَلْ يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يُنْفِذَ حُكْمَ أَبِيهِ‏؟‏ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقِيلَ يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ ا هـ‏.‏

وَيَظْهَرُ الْجَوَازُ لِمَا ذُكِرَ، وَفِي جَوَازِ حُكْمِهِ بِشَهَادَةِ ابْنٍ لَهُ لَمْ يُعَدَّ لَهُ شَاهِدَانِ‏.‏ وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْخَصْمُ لَا الشَّاهِدُ وَالثَّانِي‏:‏ لَا‏.‏ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ‏:‏ وَهُوَ الْأَرْجَحُ فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ تَعْدِيلُهُ، فَإِنْ عَدَّلَهُ شَاهِدَانِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِ وَكَابْنِهِ فِي ذَلِكَ سَائِرِ أَبْعَاضِهِ ‏(‏وَيْحُكُمْ لَهُ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏وَلِهَؤُلَاءِ‏)‏ الْمَذْكُورِينَ مَعَهُ حَيْثُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ خُصُومَةُ ‏(‏الْإِمَامِ أَوْ قَاضٍ آخَرَ‏)‏ مُسْتَقِلٍّ سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَهُ فِي بَلَدِهِ أَمْ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ ‏(‏وَكَذَا نَائِبُهُ‏)‏ يَحْكُمُ لَهُ ‏(‏عَلَى الصَّحِيحِ‏)‏ كَبَقِيَّةِ الْحُكَّامِ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ لَا لِلتُّهْمَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَدْ يُوهِمُ اقْتِصَارَ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَنْعِ الْحُكْمِ لِمَنْ ذَكَرَ جَوَازَهُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَهُوَ وَجْهٌ اخْتَارَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ‏.‏

المتن‏:‏

وَإِذَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ نَكَلَ فَحَلَفَ الْمُدَّعِي وَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ عِنْدَهُ أَوْ يَمِينِهِ أَوْ، الْحُكْمَ بِمَا ثَبَتَ وَالْإِشْهَادَ بِهِ لَزِمَهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَإِذَا‏)‏ ‏(‏أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ‏)‏ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْمُدَّعِي بِهِ ‏(‏أَوْ نَكَلَ‏)‏ عَنْ الْيَمِينِ بَعْدَ عَرْضِهَا عَلَيْهِ ‏(‏فَحَلَفَ الْمُدَّعِي‏)‏ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً ‏(‏وَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ عِنْدَهُ‏)‏ فِي صُورَةِ الْإِقْرَارِ ‏(‏أَوْ‏)‏ عَلَى ‏(‏يَمِينِهِ‏)‏ فِي صُورَةِ النُّكُولِ، أَوْ عَلَى مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ ‏(‏أَوْ‏)‏ سَأَلَ ‏(‏الْحُكْمَ بِمَا ثَبَتَ‏)‏ عِنْدَهُ ‏(‏وَ‏)‏ سَأَلَ أَيْضًا ‏(‏الْإِشْهَادَ بِهِ‏)‏ ‏(‏لَزِمَهُ‏)‏ إجَابَتُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُنْكِرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهِ‏:‏ إنْ قُلْنَا لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ، وَإِنْ قُلْنَا‏:‏ يَقْضِي بِهِ فَرُبَّمَا نَسِيَ أَوْ انْعَزَلَ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فَيَضِيعُ الْحَقُّ، وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ وَسَأَلَهُ الْإِشْهَادَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ أَيْضًا يَتَضَمَّنُ تَعْدِيلَ الْبَيِّنَةِ وَإِثْبَاتَ حَقِّهِ، وَلَوْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَسَأَلَ الْقَاضِيَ الْإِشْهَادَ بِإِحْلَافِهِ لِيَكُونَ حُجَّةً لَهُ فَلَا يُطَالِبُهُ مَرَّةً أُخْرَى لَزِمَهُ إجَابَتُهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

كَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحُكْمُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُدَّعِي، وَهُوَ كَذَلِكَ‏.‏ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ‏:‏ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا بِسُؤَالِ الْمُدَّعِي عَلَى الْأَصَحِّ‏.‏ نَعَمْ إنْ كَانَ الْحُكْمُ لِمَنْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ وَهُوَ وَلِيُّهُ فَيَظْهَرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ الْجَزْمَ بِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سُؤَالِ أَحَدٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ صِيغَةَ الْحُكْمِ اللَّازِمِ، وَصِيغَتُهُ قَوْلُهُ‏:‏ حَكَمْتُ عَلَى فُلَانٍ لِفُلَانٍ بِكَذَا، أَوْ قَضَيْتُ بِكَذَا، أَوْ نَفَّذْتُ الْحُكْمَ بِهِ، أَوْ أَلْزَمْتُ الْخَصْمَ بِهِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ‏:‏ كَأَمْضَيْتُهُ أَوْ أَجَزْتُهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ‏:‏ ثَبَتَ عِنْدِي أَوْ صَحَّ، أَوْ وَضَحَ لَدَيَّ، أَوْ سَمِعْتُ الْبَيِّنَةَ، أَوْ قَبِلْتُهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا، وَكَذَا مَا يُكْتَبُ عَلَى ظَهْرِ الْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ‏.‏ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَوَرَدَ هَذَا الْكِتَابُ عَلَيَّ فَقَبِلْتُهُ قَبُولَ مِثْلِهِ وَأُلْزِمْتُ الْعَمَلَ بِمُوجَبِهِ، وَلَا بُدَّ فِي الْحُكْمِ مِنْ تَعْيِينِ مَا يَحْكُمُ بِهِ وَمَنْ يَحْكُمُ لَهُ، لَكِنْ قَدْ يُبْتَلَى الْقَاضِي بِظَالِمٍ يُرِيدُ مَا لَا يَجُوزُ وَيَحْتَاجُ إلَى مُلَايَنَتِهِ فَرَخَّصَ فِي رَفْعِهِ بِمَا يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ أَسْعَفَهُ بِمُرَادِهِ‏.‏ مِثَالُهُ‏:‏ أَقَامَ الْخَارِجُ بَيِّنَةً وَالدَّاخِلُ بَيِّنَةً وَالْقَاضِي يَعْلَمُ بِفِسْقِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُلَايَنَتِهِ وَطَلَبَ هُوَ الْحُكْمَ بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ بَيِّنَتِهِ، فَيَكْتُبُ‏:‏ حَكَمْتُ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ فِي مُعَارَضَتِهِ بَيِّنَةَ فُلَانٍ الدَّاخِلِ وَفُلَانٍ الْخَارِجِ وَقَرَّرْتُ الْمَحْكُومَ بِهِ فِي يَدِ الْمَحْكُومِ لَهُ وَسَلَّطَتْهُ عَلَيْهِ وَمَكَّنْتُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ‏.‏

المتن‏:‏

أَوْ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَرًا بِمَا جَرَى مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ أَوْ سِجِلًّا بِمَا حَكَمَ اُسْتُحِبَّ إجَابَتُهُ، وَقِيلَ‏:‏ تَجِبُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

وَلَمَّا فَرَغَ الْمُصَنِّفُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ إجَابَةُ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي شَرَعَ فِيمَا يُسَنُّ لَهُ فِيهِ الْإِجَابَةُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ سَأَلَ الْمُدَّعِي الْقَاضِيَ ‏(‏أَنْ يَكْتُبَ لَهُ‏)‏ فِي قِرْطَاسٍ أَحْضَرَهُ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ‏(‏مَحْضَرًا بِمَا جَرَى مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ، أَوْ‏)‏ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ ‏(‏سِجِلًّا بِمَا حَكَمَ‏)‏ بِهِ ‏(‏اُسْتُحِبَّ‏)‏ لِلْقَاضِي ‏(‏إجَابَتُهُ‏)‏ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ مُذَكِّرٌ ‏(‏وَقِيلَ تَجِبُ‏)‏ كَالْإِشْهَادِ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُثْبِتُ حَقًّا بِخِلَافِ الْإِشْهَادِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةُ وَالْوُقُوفُ وَغَيْرُهُمَا، نَعَمْ إنْ تَعَلَّقَتْ الْحُكُومَةُ بِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَجَبَ التَّسْجِيلُ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الزَّبِيلِيِّ وَشُرَيْحٍ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَالْمُدَّعِي فِي اسْتِحْبَابِ الْإِجَابَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

اعْلَمْ أَنَّ لِأَلْفَاظِ الْحُكْمِ الْمُتَدَاوَلَةِ فِي التَّسْجِيلَاتِ مَرَاتِبُ؛ أَدْنَاهَا الثُّبُوتُ الْمُجَرَّدُ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ‏:‏ ثُبُوتُ اعْتِرَافٍ مَثَلًا بِجَرَيَانِ الْبَيْعِ، وَثُبُوتُ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَثُبُوتُ نَفْسِ الْجَرَيَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ كَمَا صَحَّحَاهُ فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ، وَنَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ صِحَّةُ الدَّعْوَى وَقَبُولُ الشَّهَادَةِ، فَهُوَ بِمَثَابَةِ سَمِعْتُ الْبَيِّنَةَ وَقَبِلْتُهَا، وَلَا إلْزَامَ فِي ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ إلْزَامٌ، وَأَعْلَاهَا الثُّبُوتُ مَعَ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ أَنْوَاعٌ سِتَّةٌ‏:‏ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ مَثَلًا، وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِهِ، وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُ، وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ مَا أَشْهَدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَأَدْنَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ هَذَا السَّادِسُ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حُكْمًا بِتَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ، وَفَائِدَتُهُ عَدَمُ احْتِيَاجِ حَاكِمٍ آخَرَ إلَى النَّظَرِ فِيهَا وَجَوَازُ النَّقْلِ فِي الْبَلَدِ، وَأَعْلَاهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَوْ الْمُوجَبِ، أَعْنِي الْأَوَّلَيْنِ‏.‏ وَأَمَّا هَذَانِ فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَعْلَى مِنْ الْآخَرِ، بَلْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْيَاءِ، فَفِي شَيْءٍ يَكُونُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَعْلَى مِنْ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، وَفِي شَيْءٍ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَإِذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِيهَا وَحَكَمَ بِهَا مَنْ يَرَاهَا كَانَ حُكْمُهُ بِهَا أَعْلَى مِنْ حُكْمِهِ بِالْمُوجَبِ‏.‏ مِثَالُهُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ، فَالشَّافِعِيُّ يَرَى صِحَّتَهُ، وَالْحَنَفِيُّ يَرَى فَسَادَهُ، فَإِذَا حَكَمَ بِصِحَّتِهِ شَافِعِيٌّ كَانَ حُكْمُهُ بِهَا أَعْلَى مِنْ حُكْمِهِ بِمُوجَبِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ فِي الْأَوَّلِ حُكْمٌ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ قَصْدًا، وَفِي الثَّانِي يَكُونُ حُكْمُهُ بِهَا ضِمْنًا؛ لِأَنَّهُ فِي الثَّانِي إنَّمَا حَكَمَ قَصْدًا بِتَرَتُّبِ أَثَرِ الْبَيْعِ عَلَيْهِ، وَاسْتَتْبَعَ هَذَا الْحُكْمَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الشَّيْءِ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ صَحِيحًا، وَمِثْلُ هَذَا تَعْلِيقُ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ عَلَى نِكَاحِهَا، فَالشَّافِعِيُّ يَرَى بُطْلَانَهُ، وَالْمَالِكِيُّ يَرَى صِحَّتَهُ، فَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ مَالِكِيٌّ صَحَّ، وَاسْتَتْبَعَ حُكْمُهُ بِهِ الْحُكْمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إذَا وُجِدَ السَّبَبُ؛ وَهُوَ النِّكَاحُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَكَمَ بِمُوجِبِ التَّعْلِيقِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَصْدًا لَا ضِمْنًا فَيَكُونُ لَغْوًا؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ لَمْ يُوجَدْ، فَهُوَ حُكْمٌ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِهِ، فَلَا يُمْنَعُ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَحْكُمَ بَعْدَ النِّكَاحِ بِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِهَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ‏:‏ أَيْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ فِيهِ أَعْلَى مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ‏.‏ مِثَالٌ‏:‏ التَّدْبِيرُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، فَإِذَا حَكَمَ الْحَنَفِيُّ بِصِحَّتِهِ لَا يَكُونُ حُكْمُهُ مَانِعًا لِلشَّافِعِيِّ مِنْ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَكَمَ الْحَنَفِيُّ بِمُوجَبِ التَّدْبِيرِ، فَإِنَّ حُكْمَهُ بِذَلِكَ يَكُونُ حُكْمًا بِبُطْلَانِ بَيْعِهِ، فَهُوَ مَانِعٌ مِنْ حُكْمِ الشَّافِعِيِّ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ، وَهَلْ يَكُونُ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ بِمُوجَبِ التَّدْبِيرِ حُكْمًا بِصِحَّةِ بَيْعِهِ حَتَّى لَا يَحْكُمَ الْحَنَفِيُّ بِفَسَادِهِ‏؟‏ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأُشْمُونِيُّ لَا؛ لِأَنَّ جَوَازَ بَيْعِهِ لَيْسَ مِنْ مُوجَبِ التَّدْبِيرِ، بَلْ التَّدْبِيرُ لَيْسَ مَانِعًا مِنْهُ وَلَا مُقْتَضِيًا لَهُ‏.‏ نَعَمْ جَوَازُ بَيْعِهِ مِنْ مُوجَبَاتِ الْمِلْكِ، فَلَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِمُوجَبِ الْمِلْكِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ مَانِعًا لِلْحَنَفِيِّ مِنْ الْحُكْمِ بِبُطْلَانِ بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ حِينَئِذٍ قَدْ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ ضِمْنًا، وَمِثْلُ التَّدْبِيرِ بَيْعُ الدَّارِ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ لَوْ اُخْتُلِفَ فِيهِ إذَا حَكَمَ الشَّافِعِيُّ بِصِحَّتِهِ كَانَ حُكْمُهُ مَانِعًا لِلْحَنَفِيِّ مِنْ الْحُكْمِ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ، وَإِنْ حَكَمَ بِمُوجَبِ الْبَيْعِ كَانَ حُكْمُهُ بِهِ مَانِعًا لِلْحَنَفِيِّ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِصِحَّةِ إجَارَةٍ لَا يَكُونُ حُكْمُهُ مَانِعًا لِلْحَنَفِيِّ مِنْ الْحُكْمِ بِفَسْخِهَا بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَآجِرَيْنِ، وَإِنْ حَكَمَ الشَّافِعِيُّ فِيهَا بِالْمُوجَبِ فَالظَّاهِرُ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ أَنَّ حُكْمَهُ يَكُونُ مَانِعًا لِلْحَنَفِيِّ مِنْ الْحُكْمِ بِالْفَسْخِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّافِعِيِّ بِالْمُوجَبِ قَدْ يَتَنَاوَلُ الْحُكْمَ بِانْسِحَابِ بَقَاءِ الْإِجَارَةِ ضِمْنًا‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ بِبَقَاءِ الْإِجَارَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمٌ بِالْمَوْتِ قَبْلَ وُجُودِهِ فَيَكُونُ بَاطِلًا كَمَا مَرَّ فِي حُكْمِ الْمَالِكِيِّ بِمُوجَبِ التَّعْلِيقِ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ الْحُكْمَ بِبَقَاءِ الْإِجَارَةِ حُكْمٌ وَقَعَ ضِمْنًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْإِجَارَةِ لَمْ يَنْحَصِرْ فِيهِ وَحُكْمُ الْمَالِكِيِّ بِمُوجَبِ التَّعْلِيقِ وَقَعَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قَصْدًا لِانْحِصَارِ مُوجَبِ التَّعْلِيقِ فِيهِ، وَهُمْ يَغْتَفِرُونَ فِي الضِّمْنِيَّاتِ مَا لَا يَغْتَفِرُونَ فِي الْقَصْدِيَّاتِ، قَالَ الْأُشْمُونِيُّ‏:‏ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي، وَقَدْ بَانَ لَكَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ وَعَكْسُهُ، وَهَذَا غَالِبٌ لَا دَائِمٌ فَقَدْ يَتَجَرَّدُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ، مِثَالُ تَجَرُّدِ الصِّحَّةِ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ فَيُحْكَمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ وَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْمُوجَبِ، وَمِثَالُ تَجَرُّدِ الْمُوجَبِ الْخُلْعُ وَالْكِتَابَةُ عَلَى نَحْوِ خَمْرٍ فَإِنَّهُمَا فَاسِدَانِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا أَثَرُهُمَا مِنْ الْبَيْنُونَةِ وَالْعِتْقِ وَلُزُومِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ فَيُحْكَمُ فِيهِمَا بِالْمُوجَبِ دُونَ الصِّحَّةِ، وَكَذَا الرِّبَا وَالسَّرِقَةُ وَنَحْوُهُمَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْمُوجَبِ دُونَ الصِّحَّةِ، وَيَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْبَيْعِ مَثَلًا كَمَا أَوْضَحْتُهُ عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِ الْمَالِكِ وَحِيَازَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَصِحَّةِ صِيغَتِهِ فِي مَذْهَبِ الْحَاكِمِ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ قَاسِمٍ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ شُهْبَةَ‏:‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَسْتَدْعِي صِحَّةَ الصِّيغَةِ وَأَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ، وَالْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ، وَكَوْنَ التَّصَرُّفِ صَادِرًا فِي مَحِلِّهِ، وَفَائِدَتُهُ فِي الْأَثَرِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ حَاكِمٌ كَانَ حُكْمًا مِنْهُ بِأَنَّ الْوَاقِفَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، وَصِيغَةُ وَقْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحَةٌ حَتَّى لَا يَحْكُمَ بِبُطْلَانِهَا مَنْ يَرَى الْإِبْطَالَ، وَلَيْسَ حُكْمًا بِصِحَّةِ وَقْفِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكًا لِمَا وَقَفَهُ حِينَ وَقَفَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ‏.‏ وَيُسَنُّ لِلْقَاضِي إذَا أَرَادَ الْحُكْمَ أَنْ يُعْلِمَ الْخَصْمَ بِأَنَّ الْحُكْمَ مُوجَبُهُ عَلَيْهِ، وَلَهُ الْحُكْمُ عَلَى مَيِّتٍ بِإِقْرَارِهِ حَيًّا فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ رَجَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ‏.‏

المتن‏:‏

وَيُسْتَحَبُّ نُسْخَتَانِ‏:‏ إحْدَاهُمَا لَهُ، وَالْأُخْرَى تُحْفَظُ فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيُسْتَحَبُّ‏)‏ لِلْقَاضِي ‏(‏نُسْخَتَانِ‏)‏ بِمَا وَقَعَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبَا ذَلِكَ ‏(‏إحْدَاهُمَا‏)‏ تُعْطَى ‏(‏لَهُ‏)‏ أَيْ صَاحِبِ الْحَقِّ غَيْرُ مَخْتُومَةٍ لِيَنْظُرَ فِيهَا وَيَعْرِضَهَا عَلَى الشُّهُودِ لِئَلَّا يَنْسَوْا ‏(‏وَ‏)‏ النُّسْخَةُ ‏(‏الْأُخْرَى تُحْفَظُ فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ‏)‏ مَخْتُومَةً مَكْتُوبًا عَلَى رَأْسِهَا اسْمُ الْخَصْمَيْنِ وَيَضَعُهَا فِي حِرْزٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ لِلتَّذَكُّرِ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَتْ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاحِدَةً وَدَفَعَهَا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لَمْ يُؤْمَنْ ضَيَاعُهَا وَمَا يَجْتَمِعُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِضَمِّ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ وَيُكْتَبُ عَلَيْهِ مَحَاضِرُ كَذَا فِي شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا، وَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهِ تَوَلَّى أَخْذَهُ بِنَفْسِهِ وَنَظَرَ أَوَّلًا إلَى خَتْمِهِ وَعَلَامَتِهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَإِذَا حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ بَانَ خِلَافَ نَصِّ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ نَقَضَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَا يَقْضِي بِهِ الْقَاضِي وَيُفْتِي بِهِ الْمُفْتِي الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُقَالُ‏:‏ الْإِجْمَاعُ يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَالْقِيَاسُ يُرَدُّ إلَى أَحَدِهِمَا، وَلَيْسَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ إنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فِي الصَّحَابَةِ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْخَطَأِ، لَكِنْ يُرَجَّحُ بِهِ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى الْآخِرِ، وَإِذَا كَانَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي شَيْءٍ كَاخْتِلَافِ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنْ انْتَشَرَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ فِي الصَّحَابَةِ وَوَافَقُوهُ فَإِجْمَاعٌ حُرٌّ فِي حَقِّهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ سَكَتُوا فَحُجَّةٌ إنْ انْقَرَضُوا وَإِلَّا فَلَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخَالِفُوهُ لِأَمْرٍ عَرَضَ لَهُمْ‏.‏ قَالَا‏:‏ وَالْحَقُّ مَعَ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ‏:‏ وَفِي الْأُصُولِ وَالْآخَرُ مُخْطِئٌ مَأْجُورٌ لِقَصْدِهِ ‏(‏وَإِذَا‏)‏ تَقَرَّرَ ذَلِكَ ثُمَّ ‏(‏حَكَمَ‏)‏ قَاضٍ ‏(‏بِاجْتِهَادِهِ‏)‏ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ الْخَصْمُ ‏(‏ثُمَّ بَانَ‏)‏ حُكْمُهُ ‏(‏خِلَافَ نَصِّ الْكِتَابِ، أَوْ السُّنَّةِ‏)‏ الْمُتَوَاتِرَةِ، أَوْ الْآحَادِ ‏(‏أَوْ‏)‏ خِلَافَ ‏(‏الْإِجْمَاعِ، أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ‏)‏ وَهُوَ مَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ تَأْثِيرِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ أَوْ يَبْعُدُ تَأْثِيرُهُ كَقِيَاسِ الضَّرْبِ عَلَى التَّأْفِيفِ لِلْوَالِدَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ‏}‏ وَمَا فَوْقَ الذَّرَّةِ بِهَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏}‏ وَكَذَا مَا قُطِعَ فِيهِ بِالْمُسَاوَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى كَقِيَاسِ الْأُمَّةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ وَغَيْرِ السَّمْنِ مِنْ الْمَائِعَاتِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ وُقُوعِ الْفَأْرَةِ‏.‏ قَالَ الرَّافِعِيُّ‏:‏ وَرُبَّمَا خَصَّ بَعْضُهُمْ اسْمَ الْجَلِيِّ بِمَا كَانَ الْفَرْعُ فِيهِ أَوْلَى بِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَسُمِّيَ مَا كَانَ مُسَاوِيًا وَاضِحًا ‏(‏نَقَضَهُ هُوَ‏)‏ أَيْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُرْفَعُ إلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ فَيَتَتَبَّعُ أَحْكَامَهُ لِنَقْضِهَا ‏(‏وَ‏)‏ نَقَضَهُ ‏(‏غَيْرُهُ‏)‏ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَتَبُّعُ أَحْكَامِ غَيْرِهِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ صَحَّحَهُ الْفَارِقِيُّ وَعَزَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ إلَى جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، فَأَمَّا النَّقْضُ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ فَبِالْإِجْمَاعِ وَالْبَاقِي فِي مَعْنَاهُ، فَقَدْ قَالَ‏:‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ‏}‏، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُفَاضِلُ بَيْنَ الْأَصَابِعِ فِي الدِّيَةِ لِتَفَاوُتِ مَنَافِعِهَا حَتَّى رُوِيَ لَهُ الْخَبَرُ فِي التَّسْوِيَةِ فَنَقَضَ حُكْمَهُ، رَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ‏.‏ وَقَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِيمَنْ رَدَّ عَبْدًا بِعَيْبٍ أَنَّهُ يَرُدُّ مَعَهُ خَرَاجَهُ، فَأَخْبَرَهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ ‏{‏النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ‏}‏ فَرَجَعَ، وَقَضَى بِأَخْذِ الْخَرَاجِ مِنْ الَّذِي أَخَذَهُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَنَقَضَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَضَاءَ شُرَيْحٍ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ بِأَنَّ الْمَالَ لِلْأَخِ مُتَمَسِّكًا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ‏}‏ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ‏}‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَفِي مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِاجْتِهَادِهِ مَا إذَا كَانَ مُقَلِّدًا وُلِّيَ لِلضَّرُورَةِ، وَحَكَمَ بِخِلَافِ نَصِّ إمَامِهِ مُقَلِّدًا لِوَجْهٍ ضَعِيفٍ، فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا نَصَّ إمَامِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَنَصِّ الشَّارِعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ كَمَا قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْفَتْوَى‏.‏ قَالَ‏:‏ وَيَجِبُ نَقْضُهُ، وَلَا شَكَّ فِي نَقْضِ مَا صَدَرَ مِنْ مُقَلِّدٍ غَيْرِ مُتَبَحِّرٍ بِخِلَافِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَلَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَذْهَبِ مَنْ قَلَّدَهُ لَمْ يُنْقَضْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْمُقَلِّدِ تَقْلِيدَ مَنْ شَاءَ‏.‏

المتن‏:‏

لَا خَفِيٍّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

صِيغَةُ النَّقْضِ نَقَضْتُهُ وَفَسَخْتُهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَأَبْطَلْتُهُ، وَلَوْ قَالَ هَذَا بَاطِلٌ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَوَجْهَانِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَقْضًا، وَفِي تَعْبِيرِهِمْ بِنَقْضٍ وَانْتَقَضَ مُسَامَحَةً، إذْ الْمُرَادُ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَصِحَّ مِنْ أَصْلِهِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَعَلَى الْقَاضِي إعْلَامُ الْخَصْمَيْنِ بِصُورَةِ الْحَالِ‏.‏ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُسَجِّلَ بِالنَّقْضِ كَمَا سَجَّلَ بِالْحُكْمِ لِيَكُونَ التَّسْجِيلُ الثَّانِي مُبْطِلًا لِلْأَوَّلِ كَمَا صَارَ الثَّانِي نَاقِضًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَجَّلَ بِالْحُكْمِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِسْجَالُ بِالنَّقْضِ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْجَالُ بِهِ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ ‏(‏لَا‏)‏ إنْ بَانَ خِلَافُ قِيَاسٍ ‏(‏خَفِيٍّ‏)‏ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومٍ جَلِيٍّ، وَأَرَادَ بِالْخَفِيِّ مَا لَا يُزِيلُ احْتِمَالَ الْمُفَارَقَةِ وَلَا يَبْعُدُ كَقِيَاسِ الْأَرُزِّ عَلَى الْبُرِّ فِي بَابِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الطَّعْمِ، فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ الْمُخَالِفُ لَهُ؛ لِأَنَّ الظُّنُونَ الْمُتَعَادِلَةَ لَوْ نُقِضَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لَمَا اسْتَمَرَّ حُكْمٌ وَلَشَقَّ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ وَمَشْهُورٌ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ حَكَمَ بِحِرْمَانِ الْأَخِ الشَّقِيقِ فِي الْمُشَرِّكَةِ‏.‏ ثُمَّ شَرَّكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْقُضْ قَضَاءَهُ الْأَوَّلَ، وَقَالَ‏:‏ ذَاكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي‏.‏ وَلَوْ قَضَى قَاضٍ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمَفْقُودِ زَوْجُهَا بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَبِنَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَبِنَفْيِ بَيْعِ الْعَرَايَا، وَبِمَنْعِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِمُثْقَلٍ، وَبِصِحَّةِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ بَعْدَ حَوْلَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَقَتْلِ مُسْلِمٍ بِذِمِّيٍّ، وَجَرَيَانِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، نُقِضَ قَضَاؤُهُ كَالْقَضَاءِ بِاسْتِحْسَانِ فَاسِدٍ، وَذَلِكَ لِمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فِي جَعْلِ الْمَفْقُودِ مَيِّتًا مُطْلَقًا أَوْ حَيًّا كَذَلِكَ فِي الْأُولَى، وَالْحَاكِمُ الْمُخَالِفُ جَعَلَهُ فِيهَا مَيِّتًا فِي النِّكَاحِ دُونَ الْمَالِ، وَلِمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فِي عِصْمَةِ النُّفُوسِ فِي الرَّابِعَةِ، وَلِظُهُورِ الْأَخْبَارِ فِي خِلَافِ حُكْمِهِ فِي الْبَقِيَّةِ وَبُعْدِهَا عَنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي عِنْدَهُ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ هُنَا، وَاقْتَصَرَ فِي كِتَابِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ الرُّويَانِيِّ نَفْسِهِ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ، وَقِيلَ‏:‏ لَا يُنْقَضُ ذَلِكَ، وَصَحَّحَهُ الرُّويَانِيُّ وَكَلَامُ الرَّوْضَةِ فِيمَا عَدَا مَسْأَلَةِ الْمَفْقُودِ يَمِيلُ إلَيْهِ، وَالِاسْتِحْسَانُ الْفَاسِدُ أَنْ يُسْتَحْسَنَ شَيْءٌ لِأَمْرٍ يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ أَوْ لِعَادَةِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، أَوْ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَحْرُمُ مُتَابَعَتُهُ‏.‏ أَمَّا إذَا اُسْتُحْسِنَ الشَّيْءُ لِدَلِيلٍ يَقُومُ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، فَيَجِبُ مُتَابَعَتُهُ وَلَا يُنْقَضُ، وَلَوْ قَضَى بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ أَوْ بِشَهَادَةِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَفَاسِقٍ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ كَمُعْظَمِ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

هَذَا كُلُّهُ فِي الصَّالِحِ لِلْقَضَاءِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَصْلُحْ لَهُ فَإِنَّ أَحْكَامَهُ تُنْقَضُ، وَإِنْ أَصَابَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا صَدَرَتْ مِمَّنْ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ وَلَّاهُ ذُو شَوْكَةٍ بِحَيْثُ يَنْفُذُ حُكْمُهُ مَعَ الْجَهْلِ أَوْ نَحْوِهِ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ مَا أَصَابَ فِيهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي‏.‏

المتن‏:‏

وَالْقَضَاءُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَالْقَضَاءُ‏)‏ فِيمَا بَاطِنُ الْأَمْرِ فِيهِ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ ‏(‏يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا‏)‏ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، فَلَا يُحِلُّ هَذَا الْحُكْمُ حَرَامًا وَلَا عَكْسَهُ، فَلَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ظَاهِرُهُمَا الْعَدَالَةُ لَمْ يَحْصُلْ بِحُكْمِهِ الْحِلُّ بَاطِنًا، سَوَاءٌ الْمَالُ وَغَيْرُهُ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحْوِ مَا أَسْمَعَ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ‏}‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ نِكَاحًا لَمْ يَحِلَّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا وَعَلَيْهَا الِامْتِنَاعُ وَالْهَرَبُ مَا أَمْكَنَهَا‏.‏ فَإِنْ أُكْرِهَتْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَاهُ، وَحَمَلَهُ الْإِسْنَوِيُّ عَلَى مَا إذَا رُبِطَتْ وَإِلَّا فَالْوَطْءُ لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَحِلَّهُ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حُكْمٌ بِخِلَافِ مَا هُنَا، وَفِي حَدِّهِ بِالْوَطْءِ وَجْهَانِ أَوْجَهُهَا كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ وَابْنُ الْمُقْرِي عَدَمُ الْحَدِّ‏:‏ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُهَا مَنْكُوحَةً بِالْحُكْمِ، فَيَكُونُ وَطْؤُهُ وَطْئًا فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ وَذَلِكَ شُبْهَةٌ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا تَمْكِينُهُ وَقَصَدَهَا دَفَعَتْهُ كَالصَّائِلِ عَلَى الْبُضْعِ، وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَلَعَلَّهُ مِمَّنْ يَرَى الْإِبَاحَةَ، فَكَيْفَ يَسُوغُ دَفْعُهُ وَقَتْلُهُ‏؟‏‏.‏

أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُسَوِّغَ لِلدَّفْعِ وَالْمُوجِبَ لَهُ انْتِهَاكُ الْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ صَالَ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ عَلَى بُضْعِ امْرَأَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهَا دَفْعُهُ بَلْ يَجِبُ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقًا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بَاطِنًا إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ وَيَبْقَى التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا لَا النَّفَقَةُ لِلْحَيْلُولَةِ، وَلَوْ نَكَحَتْ آخَرَ فَوَطِئَهَا جَاهِلًا بِالْحَالِ فَشُبْهَةٌ، وَتَحْرُمُ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ أَوْ عَالِمًا أَوْ نَكَحَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ وَوَطِئَ فَكَذَا فِي الْأَشْبَهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، أَمَّا مَا بَاطِنُ الْأَمْرِ فِيهِ كَظَاهِرِهِ بِأَنْ تَرَتَّبَ عَلَى أَصْلٍ صَادِقٍ فَيَنْفُذُ الْحُكْمُ فِيهِ بَاطِنًا أَيْضًا قَطْعًا إنْ كَانَ فِي مَحِلِّ اتِّفَاقِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَعَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ إنْ كَانَ فِي مَحِلِّ اخْتِلَافِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِمَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ لِتَتَّفِقَ الْكَلِمَةُ وَيَتِمَّ الِانْتِفَاعُ، فَلَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ لِشَافِعِيٍّ بِشَفَاعَةِ الْجِوَارِ أَوْ بِالْإِرْثِ بِالرَّحِمِ حَلَّ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ اعْتِبَارًا بِعَقِيدَةِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَالِاجْتِهَادُ إلَى الْقَاضِي لَا إلَى غَيْرِهِ،‏.‏ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِمَا يَعْتَقِدُهُ الْقَاضِي لَا الشَّاهِدُ كَشَافِعِيٍّ شَهِدَ عِنْدَ حَنَفِيٍّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِذَلِكَ‏.‏ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ‏:‏ وَلِشَهَادَتِهِ بِذَلِكَ حَالَانِ‏.‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَشْهَدَ بِنَفْسِ الْجِوَارِ وَهُوَ جَائِزٌ‏.‏ ثَانِيهِمَا‏:‏ أَنْ يَشْهَدَ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَوْ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ، وَيَنْبَغِي عَدَمُ جَوَازِهِ لِاعْتِقَادِهِ خِلَافَهُ ا هـ وَهَذَا لَا يَأْتِي مَعَ تَعْلِيلِهِمْ الْمَذْكُورِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا يَقْضِي بِخِلَافِ عِلْمِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَقْضِي بِعِلْمِهِ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَا يَقْضِي‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏بِخِلَافِ عِلْمِهِ بِالْإِجْمَاعِ‏)‏ كَمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِزَوْجِيَّةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةً أَوْ طَلَاقًا بَائِنًا، فَلَا يَقْضِي بِالْبَيِّنَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى بِهِ لَكَانَ قَاطِعًا بِبُطْلَانِ حُكْمِهِ وَالْحُكْمُ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

اُعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ دَعْوَاهُ الْإِجْمَاعَ بِوَجْهٍ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِالشَّهَادَةِ الْمُخَالِفَةِ لِعِلْمِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ لَنَا خِلَافًا فِي أَنَّ الْأَوْجُهَ هَلْ تَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَوْ لَا، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ فَلَا تَقْدَحْ، وَتَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لَا يَعْلَمُ صِدْقَهُمَا وَلَا كِذْبَهُمَا يَكُونُ قَاضِيًا بِخِلَافِ عِلْمِهِ، فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ هُوَ نَافِذٌ جَزْمًا، فَلَوْ عَبَّرَ كَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِ بِلَا يَقْضِي بِمَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ كَانَ أَوْلَى وَقَوْلُهُ‏:‏ وَلَا يَقْضِي بِخِلَافِ عِلْمِهِ يَنْدَرِجُ فِيهِ حُكْمُهُ بِخِلَافِ عَقِيدَتِهِ‏.‏ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَ فِيهِ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يُبْرَمُ مِنْ حَاكِمٍ بِمَا يَعْتَقِدُهُ ‏(‏وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَقْضِي بِعِلْمِهِ‏)‏ وَلَوْ عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مَحِلِّ وِلَايَتِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْوَاقِعَةِ بَيِّنَةٌ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ إذَا حَكَمَ بِمَا يُفِيدُ الظَّنَّ وَهُوَ الشَّاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ فَبِالْعِلْمِ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْمَالِ قَطْعًا، وَكَذَا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَالثَّانِي‏:‏ الْمَنْعُ لِمَا فِيهِ مِنْ التُّهْمَةِ، وَرَدَّ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ‏:‏ ثَبَتَ عِنْدِي وَصَحَّ لَدَيَّ كَذَا قُبِلَ قَطْعًا مَعَ احْتِمَالِ التُّهْمَةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُكْرَهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ‏.‏ قَالَ الرَّبِيعُ‏:‏ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ وَلَا يَبُوحُ بِهِ مَخَافَةَ قُضَاةِ السُّوءِ‏.‏ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ لِلْمُنْكِرِ‏:‏ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ لَهُ تَمْلِيكَ مَا ادَّعَاهُ وَحَكَمْتُ عَلَيْكَ بِعِلْمِي، فَإِنْ تَرَكَ أَحَدٌ هَذَيْنِ لَمْ يَنْفُذْ، وَشَرَطَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي الْقَوَاعِدِ كَوْنَ الْحَاكِمِ ظَاهِرَ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ‏.‏

المتن‏:‏

إلَّا فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

شَمِلَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ جَرَيَانَ الْخِلَافِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَالْمَشْهُورُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَقْضِي فِيهِ بِالْعِلْمِ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَصْلِ الْآتِي، وَلَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ جَزْمًا لِأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ وَشَرِيكِهِ فِي الْمُشْتَرَكِ، وَمَا الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ أَهُوَ الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ أَوْ غَلَبَةُ الظَّنِّ مُطْلَقًا‏؟‏ وَالرَّاجِحُ الثَّانِي كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ، فَمَتَى تَحَقَّقَ الْحَاكِمُ طَرِيقًا تُسَوِّغُ الشَّهَادَةَ لِلشَّاهِدِ جَازَ لَهُ الْحُكْمُ بِهَا كَمُشَاهَدَةِ الْقَرْضِ وَالْإِبْرَاءِ أَوْ اسْتِصْحَابِ حُكْمِهِمَا، وَكَمُشَاهَدَةِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ مُدَّةً طَوِيلَةً بِلَا مُعَارِضٍ وَكَخَبِرَةِ بَاطِنِ الْمُعْسِرِ وَمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الظُّنُونِ وَمَا يَقَعُ فِي الْقُلُوبِ بِلَا أَسْبَابٍ لَمْ يَشْهَدْ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا هَذَا كُلُّهُ فِيمَا عِلْمُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ‏.‏ أَمَّا مَا عِلْمُهُ بِالتَّوَاتُرِ فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَحْذُورَ ثَمَّ التُّهْمَةُ، فَإِذَا شَاعَ الْأَمْرُ زَالَتْ، وَاخْتَارَ الْبُلْقِينِيُّ التَّفْصِيلَ بَيْنَ التَّوَاتُرِ الظَّاهِرِ لِكُلِّ أَحَدٍ كَوُجُودِ بَغْدَادَ فَيَقْضِي بِهِ قَطْعًا وَبَيْنَ التَّوَاتُرِ الْمُخْتَصِّ فَيَتَخَرَّجُ عَلَى خِلَافِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ، وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ مَا لَوْ عَلِمَ الْقَاضِي الْإِبْرَاءَ فَذَكَرَهُ لِلْمُقِرِّ، فَقَالَ‏:‏ أَعْرِفُ صُدُورَ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَدَيْنُهُ بَاقٍ عَلَيَّ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَى الْمُقِرِّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ قَدْ أَقَرَّ بِمَا يَدْفَعُ عِلْمَ الْقَاضِي، قَالَ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ وَهُوَ فِقْهٌ وَاضِحٌ ا هـ‏.‏

وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَضَاءٍ عَلَى خِلَافِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْخَصْمِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ الْإِبْرَاءِ قَدْ يَرْفَعُ حُكْمَ الْإِبْرَاءِ فَصَارَ الْعَمَلُ بِهِ لَا بِالْبَيِّنَةِ وَلَا بِالْإِقْرَارِ الْمُتَقَدِّمِ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ مَحِلِّ الْخِلَافِ بِالْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ صُوَرٌ‏.‏ أَحَدُهَا‏:‏ مَا لَوْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ بِشَيْءٍ فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ قَطْعًا، لَكِنَّهُ قَضَاءٌ بِالْإِقْرَارِ لَا بِالْعِلْمِ‏.‏ ثَانِيهَا‏:‏ لَوْ عَلِمَ الْإِمَامُ اسْتِحْقَاقَ مَنْ طَلَبَ الزَّكَاةَ جَازَ الدَّفْعُ لَهُ ثَالِثُهَا‏:‏ لَوْ عَايَنَ الْقَاضِي اللَّوْثَ كَانَ لَهُ اعْتِمَادُهُ، وَلَا يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ‏.‏ رَابِعُهَا‏:‏ أَنْ يُقِرَّ عِنْدَهُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، ثُمَّ يَدَّعِي زَوْجِيَّتَهَا‏.‏ خَامِسُهَا‏:‏ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ أَبَاهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَتَلَهُ غَيْرُهُ ‏(‏إلَّا فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى‏)‏ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْمُحَارَبَةِ وَالشُّرْبِ، فَلَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَيُنْدَبُ سَتْرُهَا وَالتَّعْزِيرَاتِ الْمُعَلَّقَةِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحُدُودِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ تَعَالَى كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي مِنْ مُكَلَّفٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ‏.‏ ثُمَّ أَظْهَرَ الرِّدَّةَ فَقَدْ أَفْتَى الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ بِعِلْمِهِ وَيُرَتِّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامَهُ، وَاسْتُثْنِيَ أَيْضًا مَا إذَا اعْتَرَفَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ إقْرَارِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي فِيهِ بِعِلْمِهِ، وَلَوْ اعْتَرَفَ سِرًّا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا‏}‏ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِأَنْ يَكُونَ اعْتِرَافُهَا بِحُضُورِ النَّاسِ، وَخَرَجَ بِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْزِيرَاتِهِ حُقُوقُهُ الْمَالِيَّةُ فَيَقْضِي فِيهَا بِعِلْمِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ، وَلَوْ قَامَتْ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِ عِلْمِهِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَإِذَا نَفَّذْنَا أَحْكَامَ الْقَاضِي الْفَاسِقِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا مَرَّ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ قَضَاؤُهُ بِعِلْمِهِ بِلَا خِلَافٍ، إذْ لَا ضَرُورَةَ إلَى تَنْفِيذِهِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّةَ النَّادِرَةَ مَعَ فِسْقِهِ الظَّاهِرِ وَعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ قَطْعًا‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ رَأَى وَرَقَةً فِيهَا حُكْمُهُ أَوْ شَهَادَتُهُ أَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّك حَكَمْت أَوْ شَهِدْتَ بِهَذَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَمْ يَشْهَدْ حَتَّى يَتَذَكَّرَ، وَفِيهِمَا وَجْهٌ فِي وَرَقَةٍ مَصُونَةٍ عِنْدَهُمَا وَلَهُ الْحَلِفُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ حَقٍّ أَوْ أَدَائِهِ اعْتِمَادًا عَلَى خَطِّ مُوَرِّثِهِ إذَا وَثِقَ بِخَطِّهِ وَأَمَانَتِهِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ‏)‏ ‏(‏رَأَى‏)‏ قَاضٍ أَوْ شَاهِدٌ ‏(‏وَرَقَةً فِيهَا حُكْمُهُ أَوْ شَهَادَتُهُ‏)‏ عَلَى إنْسَانٍ بِشَيْءٍ ‏(‏أَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّك حَكَمْت أَوْ شَهِدْتَ بِهَذَا‏)‏ ‏(‏لَمْ يَعْمَلْ‏)‏ الْقَاضِي ‏(‏بِهِ‏)‏ أَيْ بِمَضْمُونِ خَطِّهِ ‏(‏وَلَمْ يَشْهَدْ‏)‏ أَيْ الشَّاهِدُ بِمَضْمُونِ خَطِّهِ ‏(‏حَتَّى يَتَذَكَّرَ‏)‏ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ حَكَمَ أَوْ شَهِدَ بِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ لِإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ وَتَشَابُهِ الْخُطُوطِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّ الْقَاعِدَةَ إذَا أَمْكَنَ الْيَقِينُ لَا يُعْتَمَدُ الظَّنُّ، وَلَا يَكْفِي تَذَكُّرُ أَصْلِ الْقَضِيَّةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَفْهَمَ قَوْلُهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا شَهِدَ غَيْرُهُ عَنْهُ بِأَنَّ فُلَانًا حَكَمَ بِكَذَا اعْتَمَدُوهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ جَهْلَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ لَمَّا كَانَ بَعِيدًا قَدَحَ فِي صِدْقِ الشُّهُودِ وَأَفْهَمَ الْعَمَلَ بِهِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ‏(‏وَفِيهِمَا‏)‏ أَيْ الْعَمَلِ وَالشَّهَادَةِ ‏(‏وَجْهٌ فِي وَرَقَةٍ مَصُونَةٍ‏)‏ مِنْ سِجِلٍّ وَيَحْضُرُ ‏(‏عِنْدَهُمَا‏)‏ أَيْ الْقَاضِي وَالشَّاهِدِ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ إذَا وَثِقَ بِخَطِّهِ وَلَمْ يُدَاخِلْهُ رِيبَةٌ لِبُعْدِ التَّحْرِيفِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ لِاحْتِمَالِهِ ‏(‏وَلَهُ‏)‏ أَيْ الشَّخْصِ ‏(‏الْحَلِفُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ حَقٍّ‏)‏ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ عَلَى ‏(‏أَدَائِهِ‏)‏ لِغَيْرِهِ ‏(‏اعْتِمَادًا عَلَى خَطِّ مُوَرِّثِهِ‏)‏ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا أَوْ عَلَيْهِ لَهُ كَذَا ‏(‏إذَا وَثِقَ بِخَطِّهِ وَأَمَانَتِهِ‏)‏ اعْتِضَادًا بِالْقَرِينَةِ وَاحْتَجَّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لِجَوَازِ الْيَمِينِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ بِحَلِفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي فِي الدَّعَاوَى جَوَازُ الْحَلِفِ عَلَى الْبَتِّ بِظَنٍّ مُؤَكِّدٍ يَعْتَمِدُ خَطَّهُ أَوْ خَطَّ أَبِيهِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ بِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِغَيْرِ الْقَاضِي وَالشَّاهِدِ بِخِلَافِ الْحَلِفِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْحَالِفِ، وَيُبَاحُ بِغَالِبِ الظَّنِّ، وَضَبَطَ الْقَفَّالُ الْوُثُوقَ بِخَطِّ الْأَبِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ وَأَقَرَّاهُ بِكَوْنِهِ بِحَيْثُ لَوْ وَجَدَ فِي التَّذْكِرَةِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا لَمْ يَجِدْ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِهِ، بَلْ يُؤَدِّيَهُ مِنْ التَّرِكَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُهُ‏:‏ مُوَرِّثِهِ لَيْسَ بِقَيْدٍ، بَلْ خَطُّ مُكَاتَبِهِ الَّذِي مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابَةِ، وَخَطُّ مَأْذُونِهِ الْقِنِّ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَخَطُّ مُعَامِلِهِ فِي الْقِرَاضِ وَشَرِيكِهِ فِي التِّجَارَةِ كَذَلِكَ عَمَلًا بِالظَّنِّ الْمُؤَكَّدِ، وَكَذَا الْخَطُّ لَيْسَ بِقَيْدٍ، بَلْ الْإِخْبَارُ مِنْ عَدْلٍ مِثْلِهِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ‏.‏

المتن‏:‏

وَالصَّحِيحُ جَوَازُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِخَطٍّ مَحْفُوظٍ عِنْدَهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَالصَّحِيحُ جَوَازُ‏)‏ ‏(‏رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِخَطٍّ مَحْفُوظٍ عِنْدَهُ‏)‏ وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْهُ لِعَمَلِ الْعُلَمَاءِ بِهِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِخَطِّهِ أَمْ بِخَطِّ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي‏:‏ الْمَنْعُ كَالشَّهَادَةِ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ قَدْ يَتَسَاهَلُ فِي الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، وَمِنْ الْفَرْعِ مَعَ حُضُورِ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ الرَّاوِيَ يَقُولُ‏:‏ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ أَنَّهُ يَرْوِي كَذَا، وَلَا يَقُولُ الشَّاهِدُ‏:‏ حَدَّثَنِي فُلَانٌ أَنَّهُ يَشْهَدُ بِكَذَا، وَيَجُوزُ لِلشَّخْصِ أَنْ يَرْوِيَ بِإِجَازَةٍ أَرْسَلَهَا إلَيْهِ الْمُحَدِّثُ بِخَطِّهِ إنْ عَرَفَ هُوَ خَطَّهُ اعْتِمَادًا عَلَى الْخَطِّ، فَيَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ كِتَابَةً أَوْ فِي كِتَابِهِ أَوْ كَتَبَ إلَيَّ بِكَذَا، وَيَصِحُّ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ أَجَزْتُك مَرْوِيَّاتِي أَوْ نَحْوَهَا كَمَسْمُوعَاتِي، بَلْ لَوْ قَالَ‏:‏ أَجَزْتُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَنْ أَدْرَكَ زَمَانِي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَكُلِّ أَحَدٍ صَحَّ وَلَا يَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَجَزْتُ أَحَدَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ مَثَلًا مَرْوِيَّاتِي وَنَحْوَهَا أَوْ أَجَزْتُكَ أَحَدَ هَذِهِ الْكُتُبِ لِلْجَهْلِ بِالْمَجَازِ لَهُ فِي الْأُولَى وَبِالْمَجَازِ فِي الثَّانِيَةِ، وَلَا بِقَوْلِ أَجَزْتُ مَنْ سَيُولَدُ بِمَرْوِيَّاتِي مَثَلًا لِعَدَمِ الْمَجَازِ لَهُ، وَتَصِحُّ الْإِجَازَةُ لِغَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَتَكْفِي الرِّوَايَةُ بِكِتَابَةٍ وَنِيَّةِ إجَازَةٍ كَمَا تَكْفِي مَعَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ مَعَ سُكُوتِهِ وَإِذَا كَتَبَ الْإِجَازَةَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهَا‏.‏